احتفل معهد غوته والسفارة الألمانية والمعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، بالشاعر فؤاد رفقه لمناسبة تقليده ميدالية غوته في مدينة فايمار الألمانية.
وقد حصل الشاعر على ذلك التكريم لنقله العديد من الشعر الوجداني الألماني، إلى اللغة العربية؛ كما أنه يُعتبر وسيطاً مهماً للثقافة بين الشرق والغرب.
ولا يزال لقاؤه مع فنون الشعر والفلسفة الألمانية، التي وصفها بنفسه، ذات مرّة، بأنها، زلزالُ وُجودِه، يسودُ عملَه الشعري الخاص به حتى اليوم.
<<<
في خمسينات القرن الماضي، كان رفقه مؤسساً لمجلة "شعر"، كما عمل أستاذاً للفلسفة في الجامعة اللبنانية الأميركية، وأصبح وسيطاً للعوالم الثقافية والإبداعية بين الشرق والغرب.
وهذا بعضُ ما قدّمه للإبداعِ والثقافةِ في العربية والألمانية؛ كما أنها ليستْ أول مرّة ينالُ فيها التقدير والتكريم من ألمانيا.
<<<
ولذلك كله، لم أتردّد في قبولِ دعوتي إلى المشاركة في أمسية تكريمه في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية. وقد لخّصتُ، من خلال كلمتي مسارَ هذا الشاعر المتميِّز بالعمقِ والجدّية والتواضع.
<<<
لقد كانت علاقةً مميّزة بين الشاعر وبعض الينابيع التي منها استلهم فلسفتَه وقصائدَ شعره. كما حوّل إليها، في المقابل، بعضاً من عطائه وثمارِ فكرهِ وجهده، حين قام بالترجمة على خطّين.
ولا تزال تلك العلاقةُ متواصلةً. وقد بدأتْ في مطلع ستينات القرن الماضي، وتواصلتْ لدى قيامِهِ بترجمة عشرة أعمال لكبار الشعراء والفلاسفة الألمان. كما نُقلت بعضُ أعماله، خصوصاً شعره، إلى الألمانية.
<<<
في كتابه "خَرْبَشات في جسدِ الوقت"، يكتبُ رفقه "في ألمانيا الشعرُ والفلسفة رفيقان وصديقان. إنهما في حوارٍ مستمرّ. وعندنا، أين الشعرُ الذي يصادقُ الفكر؟ وأين الفكرُ الذي يصادقُ الشعر؟".
<<<
وفي هذا الكتابِ بالذات، يتجوّلُ بين مناطقِ الفكر الألماني، ويُعرِّفُنا بالفلاسفة والمفكّرين، فندرك كم هو مُتعمِّقٌ في معرفةِ منْ شيّدَ الحضارةَ والفكرَ في ألمانيا.
ويبقى، في نثرِه، كما في شعرِه، يتأرجحُ بين عدَّةِ عوالم، كما يظلُّ بين الشكِّ واليقين؛ ومن بعض حواره مع ذاتِه أقتطف: "غريبٌ أمرُكَ يا بيدر، من جهةٍ أنتَ في بلادِك التراب، وأنتَ في الجبالِ الوعر، وأنتَ فيها الماعزُ والينابيع، وأنتَ فيها الجذوع، ورغمَ هذا، هناك من جهةٍ ثانية، الحنينُ المشتعلُ أبداً إلى مراكبِ الراين. وبين هذين الجانحين، وجودُكَ مصلوب. جذورُك في مشارفِ صِنّين، وعيناك على الألب".
<<<
وفي شعره لا ينقطعُ حوارُه هذا مع العالمين الخارجي والداخلي، ومهما بدّلَ أسماءَه والألقاب، من الحطّاب إلى شيخ درويش، إلى الهندي الأحمر، والسامري والصوفي وبيدر...
فهذه كلُّها مرايا تعكسُ صورةَ صاحبها القلِق، المتأمِّل، والباقي، كما يقول: "كيمامةٍ برّيةٍ هناك فوق الصخورِ الوحشية، وحدَها تُغنّي، هكذا أنتَ، يا بيدر".
وهي وحْدةُ الشاعر الذي يمثّلُهُ رفقه في جميعِ أوصافِهِ وأحواله.
<<<
يعترفُ الشاعرُ في مقابلةٍ له مع الأستاذ سليمان بختي أن تجربتَهُ الشعرية عَبَرتْ ثلاث مراحل: أولُها المرحلة الضبابية، ثم تلتْها المكانية عندما أدرك بأن الوجودَ البشري يرتكزُ على جذرين: الزمني والمكاني.
وفي المرحلةِ الثالثة كانت التجربةُ الروحية بمعناها الشامل وكما عبّرَ عنها في كتابه «جَرَّةُ السامري" والتي يعتبرُها ذروةَ تجربته الشعرية، التي كانت بداياتُها مع مجلّة «شعر».
وقد قال فيه مؤسس تلك المجلة، الشاعر يوسف الخال: «فؤاد مثل الأنهار البرّية،
لا تعرف إلى أين تصل، لكنها دائماً تجري".
<<<
ولا يزال هذا الشاعر يجري، بين قرّائه، وخصوصاً بين طلابه، وهم ينتشرون في مشارقِ الأرض ومغاربها. وهو ما كان ليبلغَ هذه الغلّةَ فوقَ بيدره، لو لم يبدأ بحراثةِ الأرض وغرسِها. فقد ظلّ دائماً وفيّاً للأرض وللطبيعة، لأنه يؤمن "أن في رائحةِ الترابِ أولَ المطر ما يفوقُ من المعرفةِ نظرِياتِ العالم".
<<<
بعدما غصتُ في مؤلفاتهِ النثرية ودواوين شعرِه، خرجتُ بصورةٍ له مستوحاةٍ من بعضِ إبداعه: فهو رجلٌ مثقلٌ بحكمةِ السنين. يسيرُ متمَهِّلاً، ويتوكّأُ على عكازٍ مجدولةٍ من شِعرٍ وفلسفة.
وفي مسيرتِهِ تسبقه عيناه وأحاسيسُه ليلاحظ كلَّ ما رفَّ ودَبّ. دائمُ اليقظة هو، رهيفُ الحسِّ، لطيفُ النبرة. يطأُ الأرضَ من دون أن يُرخي عليها ثقله.
ويؤمن بأن» الكلمة الشعرية هي رسالةٌ من ينابيع الحقيقة إلى الإنسان«.