إن أي حديث عن الكاتب العربي صاموئيل شمعون لا بد أن يكون حديثا طافحا ومفعما بالطيبوبة والمحبة، بالنظر لما تزخر به شخصية صاموئيل من أبعاد إنسانية نبيلة، هو الذي خبر الحياة كثيرا، في تقلب أحوالها وأهوالها، فجعلته يقبل عليها بمتعة نادرة، من منطلق إحساسه المرهف بكونها حياة تستحق فعلا أن تُعاش.
وحيثما وليت وجهك، نحو المغرب أو المشرق، نحو أوربا أو أميركا أو آسيا، فثمة صديق لصاموئيل. وفي موقعه الشهير «كيكا»، تتجمع محبة الإبداع والكتابة، في إطار شبكة عنكبوتية قد يصعب فك خيوطها، بمثل صعوبة إدراك سر عشق الكتاب وقراء هذا الموقع الذي أحدثه صاموئيل، فظل وفيا له، مواظبا على شحذه وتحديثه، أو حتى إدراك سر إعجابهم بهذا الموقع الأثير وسر ارتباطهم به وإقبالهم المتزايد عليه. وصاموئيل قبل ذلك كله هو صديق حميم للأدباء وللكتاب المغاربة، من مختلف الأجيال والتوجهات والاهتمامات الإبداعية، من شكري إلى أصغر شاعر عندنا، فتجده لا يتوانى في تقديم الدعم اللازم لكتابنا الشباب، وتشجيعهم وتحفيزهم على النشر والكتابة، فضلا عن الملفات الأساسية التي خصصها صاموئيل في «بانيبال» للأدب المغربي، من خلال أصواته المختلفة وترجماته المتلاحقة.
صاموئيل شمعون، إلى جانب ذلك، هو أيضا شاعر رقيق وقاص متمكن. ويكفينا قراءة سيرته الذاتية «عراقي في باريس»؛ لكي نلمس عن قرب مدى خصوصية التجربة الحياتية للرجل، ومدى عمق خبرته في الحياة والكتابة، وأيضا مدى تمكنه من لعبة السرد، وقدرته على تحريك الذاكرة واستعادة اللحظات الهاربة، وعجن الواقعي بالساخر، والمفارق بالفكه، والسهل بالممتنع، والفطنة بالطلاقة والجنون.
كل ذلك نجده مضمرا، بشكل أو بآخر، في سيرته الذاتية الممتعة «عراقي في باريس»، في حكيها عن تلك الرحلة العجيبة والاستثنائية التي قام به السارد- الكاتب، مخترقا عديد الجغرافيات والمحطات، بعد أن غادر بلدته الحبانية، تاركا وراءه بغداد، ببردها القارس وحرها اللاهب، في اتجاه هوليوود، وقد تملكه يومئذ عشق السينما، متوهما بذلك كتابة سيناريو وإخراج فيلم، وأداء دور البطولة فيه، مرورا بلبنان ودمشق، فالأردن، حيثُ تعرض لتجارب قاسية مع الاضطهاد والتعذيب ولعنة سؤال الهوية والضياع والزنازين، ثم قبرص وتونس، فباريس محطة رحلته ما قبل الأخيرة، حاملا معه متاعه القليل وآلته الكاتبة؛ ليسطر عليها سيناريو حياته.
في باريس، يستغرق السارد- الكاتب الحياة اليومية وعذابات المنفى؛ ليواجه حياة التشرد، وليصبح صعلوك زمانه، في ضيافة صعاليك آخرين، وإن تبين أنه لم يستسلم قط لحياة البؤس والتشرد في ليالي باريس وفي دروبها ومحطات قطاراتها، فكان يواجه ذلك كله بالارتماء في أحضان أجواء أخرى من المتعة والتيه، ومن الحياة البوهيمية والعبثية، فكان مأواه في الأخير هو باريس كلها.
لقد كنا نعتقد أن كتابة هذا النوع من السير الذاتية «القاسية» قد توقف في أدبنا العربي الحديث مع الأديب الراحل محمد شكري، وخصوصا في سيرته الذاتية القاسية «الخبز الحافي»، لكن بعد صدور «عراقي في باريس»، سيتأكد لنا أن ثمة سيرا ذاتية جديدة لا تقل قسوة وعنفا وصدمة ومتعة، ولربما هي أكثر قساوة من «الخبز الحافي»، بحكم ما تحكيه وما تستعيده سيرة صاموئيل من لحظات مريرة، ومن مغامرات قاسية وصعبة، بلغت حد الإطلالة على الموت، وما تضمره أيضا من حكايات مثيرة للسخرية والضحك، وإن بدا، في العمق، ضحكا كالبكاء.
وأمام تزايد طبعات «عراقي في باريس»، يتزايد أيضا عدد الدراسات والمقالات والمتابعات النقدية والتحليلية والحوارات المضيئة المواكبة لهذا النص، حيثُ تمكنت سيرة صاموئيل من أن تشد إليها، بشكل لافت وصادق، أنظار النقاد والكتاب والشعراء، وأن تحرك أقلامهم على امتداد الوطن العربي وخارجه، فرحب به النقاد بشكل كبير ومتزايد، وتلقاه غيرهم من القراء بلهفة بمجرد صدوره، ليس فقط بالنظر إلى الوضع الاعتباري لكاتبه، بل لما يطرحه النص من أسئلة مغايرة ومشاكسة، حول الذات والتجربة وتحولاتهما، وأيضا لكونه يعلمنا كيف علينا ألا نستسلم لليأس، كما يحثنا على أن نعيش الحياة من أجل الحياة فقط، وأن نبني لأنفسنا جسورا متينة للعبور نحو الأمل والسكينة، ولو بكثير من الألم والمعاناة، وبقليل من الجنون والهلوسة والمرارة وعذابات المنفى وأوجاع الحياة، حيثُ ظل صاموئيل في سيرته الذاتية، وحتى خارجها، وفيا لحلم طفولته، ولذكرى أبيه الأصم الأبكم، ولضحكة أمه الفقيرة، بمثل وفائها هي لجواربها المليئة بالثقوب منذ أن كان السارد صاموئيل طفلا صغيرا.
في نص «عراقي في باريس»، نقرأ عن زخم حكائي من التجارب والمغامرات والحكايات والمفارقات والمرارات والمفاجآت والخيبات والمآسي، ومن المتع والطمأنينة أيضا. وبمثل ما يشكل هذا النص سيرة ذاتية روائية لصاموئيل، فيمكن اعتباره أيضا سيرة لكل القراء والكتاب العرب، من المنفيين والمغتربين والمشردين، ممن تلقفتهم عذابات المنافي وألم الاغتراب، فكان صاموئيل من خلال هذه السيرة، خير من ينوب عمن لا صوت ومن لا بر ولا بحر لهم... من هنا أيضا، فهي سيرة ذاتية قد لا يتكرر كتابة مثلها، إلا بعد استئذان محمد شكري وصاموئيل شمعون، فهما اللذان يدريان متى تحدث مثل هذه الطفرة الإنسانية في حياة البشر وفي حياة الكتابة، وفي حياة كتاب رائعين حتى لا أقول مجانين