صور باقية ـ 4 ـ

 

 إفطار

أصباح بعيدة عطلة، تبدو ابنتي سعيدة عند اجتماعنا، عندما يسري بيننا مرح، عندما أشاركها وأخاها لعبهما.


في الشرفة، في الشمس، تهوى ابنتي تقمص الأدوار، تفترض أننا في مطعم، وهي زبونة، تطلب مني أن أكون الجرسون، أن أسألها عما تريد أن تأكل، ابني يقدم الطعام، تتخيل أنها مذيعة، تمسك أوراقًا، تتلو رسائل الأصدقاء، ترغب في إقامة علاقات، أن يكون لها أصدقاء، تتحدث عن نهى، عن هند، تمسك سماعة الهاتف، تجري اتصالات وهمية، هند ونهى التقتهما مرة واحدة في النادي، تقول إن إحدى صاحباتها ستتصل بها، ثم تقول: لو اتصلت بي قولوا لي، حتى الظهيرة لم يتصل أحد، تقول بضيق إن دينا وعدتها بالاتصال، تتابع ردنا على المكالمات، أمها، شقيقها الأكبر، أحيانًا تمسك السماعة، تدير رقمًا وهميًّا، تبدأ في الحديث، إذْ أطلب منها وضع السماعة، تقول محتجة: أكلم واحدة من أصدقائي، ذات صباح رنَّ الهاتف، جاءني صوت طفلة: أنا صاحبة ماجي، في البداية لم تصدق عندما أخبرتها بجدية: مكالمة عشانك، تناولت السماعة، تطلعت إليَّ والسرور يفطُّ من عينيها، راحت تتخذ أوضاعًا مختلفة أثناء حديثها إلى صاحبتها.

 

رسالة

أرى طابع البريد فأستبشر وأتوجس، إنه طابع الدولة التي تحمل جنسيتها، أختام المدينة التي تتنفس أنسامها، الخط لم يتغير كثيرًا رغم انقضاء المدة، أتعرف إليه مباشرة، أتسلم أنفاسها المودعة فيه فورًا، كم من خطوط رأيتها ذكرتني بها.. بحذر، بتوق، أفتح المظروف. بطاقة تهنئة برأس السنة، تتذكرني مع الانتقال من عام إلى عام ضمن ما تخلف، ما تبقى ماثلاً حتى في الذاكرة، ذلك توقيعها، أراه فتمثل أمامي كاملة، مكملة، هذا اسمها، وللأسماء عندي المنزلة الأسمى والمعاني الأتم، أرى الاسم فأشهد صاحبه، أذكره فيسعى أمامي، بقاء الاسم يعني استمرار وجود صاحبه في اللاوجود، لذلك حرص الأجداد على حفر أسمائهم، وإبقائها بعيدًا عن العيون حتى يجيء من يطالعها فيمثل أصحابها من جديد.

هكذا يبدو حضورها مع رؤيتي توقيعها، تفد عليَّ الابتسامات من الجهات الأصلية والفرعية، تتغير الألوان والمرئيات، يتدفق الضوء إلى حناياي، إذن.. لا تزال تسعى، تتنفس هواء الكون الذي يضمنا، لا تزال تبهج المتطلعين إليها، المحظوظين برؤياها، أقرأ الكلمات مرة أخرى، تتساءل عن أحوالي بعد عشرين سنة من الانقطاع، انبتات الصلة، بالطبع لا أعرف هيأتها الآن، أتعامل مع حضور قديم، ولا أرغب في الإضافة إليه.

تقوى عليَّ من بعيد فتعبرني خفقة، خفقة تخصها، لا تقع إلا عند ذكرها أو لحظة توقع هلاتها، إشراقاتها عند أفقي، أتمهل عند كلماتها، كافة تدوينها تساؤلات، عنواني.. هل تغير؟ ماذا عن آمالي القديمة؟ ماذا عن صمتي؟ تريد الإلمام بأحوال من هام بها قدرًا من الزمن، وحالت الظروف دون اتصال الأسباب.

يتغير اليوم كله عندي، أصير أرقَّ، أبتسم لكل من أقابله، أفرح مع كل من يتصل، أحرص على المداعبة، كتبت ثلاث رسائل، شيعت كل واحدة من مكان، لم أخاطب اسمها، إنما كنت أرسل إلى أيامي المنقضية، لعل أثرًا يلوح، أو خبرًا يواتيني.