أين أذهب ووجهك في كل مكان؟
لماذا تداهمني موسيقى أغنيتك وأنا في يدي المفتاح أمام باب الشقة؟ لماذا تهزني أغنيتك لدرجة أن يدي ترتعش بالمفتاح، وأدخل الشقة بعد لأْي بعينين غائمتين؟ وهل حبك كان قدرًا زلزلني أم اختيارًا خدعني؟ اختيارًا أخفقت فيه؛ لأن كل هذا الجمال لا يصلح للحياة اليومية، في الشوارع، والمكاتب، والبيوت.
هذه العاطفة الغنائية لا تناسبني، فأنا رجل روتيني، من البيت للمكتب، ومن المكتب للبيت، حياتي كلها تدور حول مجموعة من الدوسيهات والملفات، لا أرفع وجهي عنها إلا لكي أعبس في وجه موظف مسكين يريد قضاء مصالحه، ما لي أصبحت لطيفًا هكذا؟ أبش في وجه الناس، أصفِّر وأنا أحلق ذقني في الحمام، وأنا أتعطر بكولونيا شذا الليمون، وأنا أسير في الطريق، أصفِّر حتى وأنا أطالع الملفات وسط ذهول الزملاء.
كانوا يسألونني: لماذا لم تتزوج حتى الآن؟ كنت أهرش رأسي -الذي بدأ الشيب يداعبه- ثم أقول بعد تفكير عميق: لا أدري.
هل كان السبب أني لم أجد «بنت الحلال»، أم أن قدرًا مزلزلاً كان ينتظرني، وشاءت عناية الرحمن أن يختصني بهذا الطرب الروحي والجسدي؟
منذ يومين فاجأت رفاقي من موظفي الإدارة، وحضرة الباشكاتب -ذات نفسه- بأن خطواتي راقصة، كنت أرقص، أرقص حقًا، مغمض العينين، خفيفًا كنسمة، حتى اصطدمت بالسيد وكيل الإدارة، فخصم مني أسبوعين، ولم يوقفني عن العمل إكرامًا لشفاعة الباشكاتب.
نصحني سيد أفندي بالذهاب لطبيب، ومدام إكرام نصحتني بـ«الزار»؛ لطرد ذلك الجني النزق الذي يتلبسني، لم يعلم هذا ولا تلك سر شجوي وطربي؛ أني مريض بك أنتِ.
تمرين كل يوم تحت نافذتي في الصباح الباكر، في لحظة الطل والندى، كوردة غطاها الندى، في يدك طفل صغير جدًا، لابد أنه أخوك وأنك تأخذينه كل يوم للحضانة، صرت أخاف ونحن في أول الشتاء اقتراب موعد الإجازة الصيفية، أخاف أن يأتي يوم ممطر، وأكره عطلة نهاية الأسبوع، وكل أيام العطل والأعياد.
لو لم تمري يكون يومي حزينًا، وأغنيتي حزينة، كأن الصباح خدعني، ولم تشرق الشمس. أموت عطشًا كالتائه في الصحراء. يراني الزملاء فيتعجبون: أين أنت من شاب الأمس الطروب؟
أنام في فراشي في الظلام تحت سقف لا يترك براحًا لخيال المحبين، أحدق في ذلك السقف الأسمنتي، أحيانًا حتى الصباح.
ويأتي الصباح، تأتي محور حياتي التي أجهلها وتجهلني فيتبدل حالي، تزقزق في قلبي العصافير، بل أصير أنا الموظف المحترم الوقور- عصفورًا أتحمل سخريات الزملاء بنفس رضية، تنهال التعليقات والأسئلة: عن الربيع، والجو، والحبيب المجهول. أبتسم ولا أعلق.
غير أن الأمر بدأ أخيرًا ينهكني.
حتى الحمام لا يتحمل الطيران طوال الوقت. لابد من أرض أمشي عليها.
قررت أن أتوقف عن هذا العبث، لا أستطيع التقدم لخطبتك؛ ففارق السن كبير، وأنا موظف فقير، ولا أستطيع أن أعبر لك عن حبي؛ لأنك ستصدينني، وسيتحول الربيع إلى رياح رملية لافحة، سأغلق شباكي إذن في موعد مرورك.
أغلقت شباكي، فخرجت لي من دولاب الملابس، ودخلت من كل الأبواب والنوافذ. أين أهرب وأنت في كل مكان؟ وهل أنت قدري حقًا، أم أنني اخترتك؛ لكي أبدد ملل حياتي، وأزين جدرانها العارية؟
أيًا ما كنت، لقد عبثت بي، وأفقدتني وقاري، وأقلَّت قيمتي موسيقاك الجميلة، وأنا لم أكن يومًا من هواة الموسيقى، فما بالك بالرقص؟
كل هذا الجمال يمرضني، فأغمضي عينيك، وسربلي نفسك بالسواد، أو لا تمري تحت شباكي