على متن طائرة صغيرة تحمل رائحة بدلات جنود، شاركوا في الحرب العالمية الثانية، كنا نحاول التماسك في مقاعدنا، التي تهتز على إيقاع خشخشة محرك مرهق.
كنت أقاوم خوفًا تملّكني فجأة، واستبدّ بي، رأيت نفسي أهوي على الأرض وسط حطام تلك الطائرة الصدئة، ورأيت أمي تبكي وتنوح لوعة على فقدان وردة الدار وزينتها، مثلما كان يلقبني أخي حسن، رأيت وفود المعزين تدخل دارنا، وفي عيونهم دموع، وألسنتهم تردد: «مسكينة، ماتت غريبة».
ولم يقطع ذلك الخيط الذي شدني إلى الماضي، وشنقني على أهداب الخوف، غير صوت رجل كان يقلد أصوات المضيفات، لكنه لم ينجح في ذلك، يقول «وصلنا عدن اثبتوا في أماكنكم واربطوا الأحزمة»، إثر صوته علت القرقعة، وازداد الاهتزاز، ودون سابق إنذار ارتطمت الطائرة الأعجوبة بأرض المطار الصلبة، فتحت عيني، حمدت الله على سلامتي، وكأني أعود من كوكب بعيد على متن مكوك ملتهب.
نزلنا وقصدنا سيارة صديق زوجي الذي كان في انتظارنا، كان الحر شديدًا، والرطوبة خانقة، جعلت جسمي يبدو دبقًا، أمام نُزل داخل المدينة ترجلنا، قال صديق زوجي هذا أفضل نُزل هنا.. دخلت إلى ذلك المكان فرحة، أمنّي النفس بالراحة والنوم، وبوجبة لذيذة دسمة تنهي جوعًا رافقني من بغداد إلى صنعاء.. كانت الغرفة نظيفة ومرتبة، لكنها عتيقة، تنبعث منها رائحة لم أشمّ مثلها من قبل، ليست عَطنًا ولا عفونة، إنها رائحة حافظ ملابس تقليدي مثل «النفتلين»، كانت بيدي علبة بسكويت اشتريتها من مكان قريب من هناك، وضعتها على الطاولة القريبة من السرير، وذهبت لأغسل يدي، وحين عدت لم أر العلبة ولا الطاولة ولا أرضية الغرفة... كانت الدنيا كلها صراصير سوداء كبيرة، تهرش البسكويت محدثة صوتًا مقرفًا، صرخت وقفزت في الهواء، ثم قصدت الباب هاربة، فأنا لم أر مثل هذه الحشرات من قبل، رغم أنني كنت أسكن منزلاً وسط غاب، تحيطه الأشجار والنباتات من كل الجهات، هرع زوجي إليّ بعد أن سمع صراخي، يرافقه أحد عمال النُزل، لم أقل شيئًا، كنت أرتجف وإصبعي تشير إلى ذلك الجيش الذي زحف على الغرفة فجأة، هدّأ زوجي من روعي، قلت له يجب أن نرحل من هنا إلى نُزل آخر، أضحك كلامي عامل النُزل الذي قال مقهقهًا: «هذا أحسن نُزل في عدن، والصراصير حشرات أليفة موجودة في كل مكان هنا بسبب الحر، غدًا تتعودين عليها»، وفعلاً، أنا الآن أصبحت لا أشمئز منها وأنا أراها في المطبخ بين الصحون أو في مكتبتي تسكن كتبي، ولا يمكنني التخلص منها لأنني لا أستعمل أي مادة كيميائية في المنزل، بسبب مرض ابني الصغير بالحساسية.
أعود إلى عدن، حاول زوجي البحث عن نُزل آخر نزولاً على رغبتي، لكنه لم يجد واحدًا يعجبني، فمكثنا هناك بضعة أيام قبل أن نستلم منزلنا الذي يقع بضاحية جميلة يقطنها الأجانب، كان المنزل فارهًا مريحًا، يتكون من صالون جميل، وغرفة نوم، وحمام، ومطبخ، تفتح نافذته على بطحاء تتوسط المنازل والعمارات البيضاء، ويسمى ذلك المكان «خور مكسر» كان بالجوار يقطن حينها الشاعر العراقي «سعدي يوسف»، ومجموعة من العائلات الفلسطينية، لكنني لم أكن أزور أحدًا، كنت أعيش داخل منزلي حياة أسرية مغلقة، حياة رجل وامرأة يعشقان الشعر ومتحابين، لا شاغل لهما غير أمرهما ومحيطهما الداخلي الذاتي المتكون من تفاصيل يومية، أصبحت مع مرور الوقت روتينية، كان هو يعمل، يغادر البيت في الصباح الباكر إلى مكتبه، وأنا أمكث في المنزل، لا أفعل شيئاً غير القراءة واللعب بقط قطني أصبح يلازمني أينما تنقلت داخل ذلك البيت، في الصالون، وفي غرفة النوم، التي كانت المكان المحبذ لديّ لبرودتها، فهي الغرفة الوحيدة المكيّفة، في الصالون توجد مروحة كهربائية، وفي المطبخ لا شيء.. أجلس في الفراش وأقرأ، هناك أعدت النظر فيما أكتب، وما كتبت من شعر ونثر، وهناك تعرفت إلى تولستوي وتشيخوف ومكسيم غوركي، عبر مؤلفاتهم التي أحاطتني وملأتني وسط غربتي تلك، كانت النافذة المطلّة على البطحاء متنفسي الوحيد، منها أرقب صبية يركضون تحت الشمس الحارقة حُفاة، كانوا أطفالاً سمرًا، فقراء، بدا ذلك من لباسهم الرث، كنت أحلم باللعب مثلهم والانطلاق واللهو البريء، وذلك يبعث في داخلي حنينًا إلى طفولتي، إلى مدينتي، فتطل قرطاج بعطرها وياسمينها، أستنشق بهاها وسحرها فأنتعش لحين.