فيما كنت أحسبُ ان التقنيات العصرية هي التي تدفعنا نحو التقدّم، أعادني برنامج تبثّه إحدى المحطات التلفزيونية العربية، مائة سنة الى الوراء.
والى زمنٍ كانت فيه الخاطبة سيّدة المجتمع. وتكون هي واسطة التعارف. ويوكلُ إليها أمر البحث عن عروس مناسبة للفتى الأشمّ. وإبن العائلة العريقة، حين لم يكن مألوفاً ان يلتقي الشاب الفتاة.
وأذكر من حكايات جدّتي ما حدث لها قبل ما يزيد على مائة عام؛ إذ كادت تكسر ساقها عندما باغتها حضور جدّي؛ وكان قادماً بصحبة أهله كي يخطبها من عائلتها، فسارعت الى الهرب من "الباب السرّي". وهي التسمية المألوفة في ذلك الزمان.
وروت لي الجدّة بأنها في محاولة الهرب من نظرات العريس القادم ليخطبها من أهلها، وقعت، وكادت تكسر ساقها، إذ لم يكن مألوفاً ان تقع عينا العريس حتى على كاحل عروسه قبل أن يتمّ الزواج.
ومن أجل مراعاة التقاليد درجت العادة أن تزورَ الخاطبة عائلة الفتاة.
والخاطبة اسم رسمي لامرأة كان يوكل إليها أمرُ البحث عن العروس المناسبة.
ولأن تقاليد ذلك الزمان لم تكن تتيح لقاءً بين الجنسين، (أي الشاب والفتاة) فكانت وظيفة تلك السيدة من المهمّات اللازمة؛بل الضرورية في مجتمع ذلك الزمان.
وتَسْتَدْعيها مهمّتها لتطوف بين بيوت الأسر المعروفة، بحثاً عن الفتاة المناسبة، فتخطبها من أهلها بعدما تتعرّف إليها، وتتفحّص شكلها وسلوكها، لتقوم بنقل نتيجة بحثها الى العريس وأهله؛ فإذا وافقوا، أوكلوا إليها أمر الخطبة.
ومن أطرف ما عرفت من وصف الخاطبة انها تكون إمرأة قويّة الشخصية، بل شرسة في بعض الأحيان.
تطرق باب العائلة، وتدخل. وبعد السلام والكلام، تطلب من ربّة المنزل مقابلة الصبيّة المرشحة للزواج؛ وفي أكثر الأوقات، تكون الفتاة مراهقة، وعديمة الخبرة.
وتتقدّم منها تلك المرأة المجرَّبة، فتلاطفها، ثم تحاول ان تُجري عليها الإمتحان المألوف، كأن تشدّ خصلة من شعرها مداعبة؛ إلا أنها في الحقيقة، تقوم باختبار، لترى اذا كان الشعرُ حقيقياً أم مستعاراً.
وتروي للفتاة النوادر كي تضحكها. فتبدو أسنانُها. وتتفحّصها كي تتأكّد أنها أصلية وليست مستعارة.
وهَكذا تتابع فحص الخصر، والصدر وبقية الأعضاء المدرجة على لائحتها، كي تُسجّل بأن هذه الكاعب حقيقية وليست مصطنعة.
وفيما كنت أظنُّ ان ذلك كان يحدث قبل قرن من الزمن، وأكثر، إلاّ بعض محطّات التلفزة العربية أبت إلا ان تحيي تلك التقاليد الغابرة، وذلك من خلال ابتكار برامج مشابهة لما انطوى من صفحات الماضي، فتدعو المرأة التي تُسميها "حَماة" المستقبل، الى لقاء الصبية المرشّحة لتصبح كنّتها. ويتمّ ذلك كلّه على الشاشة؛ فيجري الحوار والمساومة. ويدخل العريس سوق المفاوضة. إنما تبقى الحماة الوسيط الأول وصاحبة السطوة.
وكم كنت ساذجة عندما حسبتُ ان الرائدات حسمْن المسألة من زمان، أي عندما قمن بالمطالبة بحق المرأة في تقرير مصيرها، واختيار شريك حياتها بكامل الرضى والحرّية.
واذا بعض المحطات التلفزيونية المعاصرة تخيبهن. وتُعيد التاريخ الى الوراء عشرات السنين.
لقد كتبتُ قبل فترة، وفي هذه الزاوية بالذات، عن عروس "الانترنت"؛ وعن الصبية المتحدّرة من أسرة مغتربة في أميركا. وكيف وظّفت "التكنولوجيا" الحديثة للبحث عن عريس، ووجدته. لكنها لم تبتّ الأمر قبل ان تلتقيه شخصياً. وبالفعل التقيا، واتفقا فتزوجا.
ولأنها من بعض أقربائي، توفّرت لي فرصة لقائها، فسألتها عن أسلوبها المبتكر في البحث عن عريس؛ فشرحت لي ان "الانترنت" كان الخطوة الأولى لذلك التعارف، إلاّ أنها سعت الى لقائه قبل أن تتخذ القرار النهائي. وهكذا نجحت في جمع الحداثة والتقاليد فوق طبق واحد.
وإذا كان ذلك يحدث على الصعيد الفردي، يظلّ أقلّ خطراً من الترويج له عبر محطات التلفزيون، واستعادة كل الوسائل والتقاليد التي تُحجّم المرأة، وتُبقيها خارج مدار التقدّم؛ بل تمحو جهد الرائدات، والنهضويين.