|
جلست تحتسي قهوتها في الشرفة، وتفكر في وضعها الجديد، أراحت ذراعيها على المنضدة، وتجاهلت حبات الغبار التي علقت بكمي قميصها الأبيض الناصع، لم يعد ذلك يهم، حالة الشرفة يرثى لها، طارت نحلة فوق زهرات الزنبق المتفتحة بين أغصان الأحواض اليابسة التي لم تسقها منذ أيام، وحط عصفور ضئيل الحجم فوق الحاجز الأسمنتي القصير الذي يفصل شرفتها عن شرفة الجيران.
أرسل المدير في طلبها باكرًا، وأخبرها بأن الشركة مضطرة للاستغناء عن خدماتها، طلب منها أن تجمع أغراضها، وتمر على القسم المالي، وتمنى لها حظًا طيبًا.
فوجئت، لم تكن تظن أن عمليات التسريح تتم بهذه البساطة.
لم يكن الموقف سهلاً.
«تعالى.. يا له من منظر!» جارتها الأسبانية تنادي زوجها.
تساءلت إن كان من اللائق أن تبقى في الشرفة، الاثنان يتجولان في شقتهما بثياب النوم، خرجا في اللحظة التي قامت فيها، ووقفا يتطلعان إلى العصفور الهزيل، لم يرفعا أعينهما عنه.
كان الطائر يحك ريشه المنتوف.
لم تدر ماذا تفعل، بقيت واقفة كالبلهاء.
«أحضري الكاميرا بسرعة!» هتف الرجل وعيناه لا تحيدان عن العصفور، جرت المرأة وعادت، وانشغل الاثنان بتصوير الطائر.
قررت أن تبقى في الشرفة، الاثنان لا يعيرانها أدنى اهتمام.
حامت نحلة حول فنجانها، ومدت يدها نحوها، تمنت أن تلسعها لتفيق من الكابوس الذي وجدت نفسها فيه، لمستها النحلة وابتعدت، لا شيء يثير الاهتمام في كتلة أعصاب مشدودة مثلها، ارتمت على الكرسي، صارت عاطلة، يجب أن تفكر فيما ستفعله، أقساط الشقة لم تنته، وفواتير إجازتها الأخيرة تنتظر.
«هولا» حيتها جارتها، وقد انتبهت أخيرًا لوجودها، وهز زوجها رأسه مبتسمًا، يوم رائع أليس كذلك؟ أرادت أن تخبرهما بأنها وجهة نظر تحترمها، ولا تشاركهما، ولكنها وجدت نفسها ترد لهما المجاملة، أجل طقس بديع، ووقت ملائم للخروج في نزهة.
هل ترافقهما؟ سألاها، ووافقت.
دخلت تغيِّر ثيابها.
لم تبد ذهولها، لأول مرة منذ قدومهما تتبادل وإياهما أكثر من جملة، ويعرضان عليها الخروج معهما!
الطقس في الخارج كان رائعا، رفعت ذقنها، وابتسمت للحياة وهي تفكر بأنها لن تعيش غير ما كتب الله لها، قادتهما إلى وسط المدينة، ولم تنتبه إلى هزة تليفونها إلا عندما فتحت حقيبتها لتخرج منديلاً، رقم مكتبها السابق، اتصلت فورًا به، وأتاها صوت زميلتها المتحمس، أين أنت؟ سأل عنك أحد العملاء وأخبرته بما حصل، الرجل يريدك في شركته، طلب رقم هاتفك، وبياناتك، اذهبي إليه فورًا…
معقول؟
شرحت لجاريها ما كان، وألحا عليها لتلحق بالوظيفة التي تنتظرها، عادت أدراجها والفرحة لا تسعها، العميل الذي ذكرت زميلتها اسمه رجل أعمال معروف بجديته، وكرمه، ستعرف حياتها المهنية تطورًا ممتازًا إن يُسر لها العمل في شركته، أخرجت أحد أطقمها الرسمية، ورتبت شعرها، صياح بائع المنظفات المنزلية يخترق جدران الشقة، أطلت من النافذة، ونادته، شدهت أمام الزحام الذي يشل حركة المرور في الشارع الضيق، شاحنتان، وعربات نقل، ودراجات، وطلبة عائدون من مدارسهم، أين ستجد سيارة أجرة في هذه الفوضى؟
زفرت بنفاد صبر، وزكمتها طبقة غبار تطايرت من إفريز النافذة، سعلت، وصفت قناني المنظفات التي اشترتها على طاولة المطبخ، لن يكون لديها الكثير من الوقت للراحة في الأيام القادمة، ألقت نظرة أخيرة على نفسها في مرآة المدخل، وابتسمت برضا، صبيحتها حبلى بالمفاجآت غير المتوقعة...
غادرت المبنى، وشقت طريقها بعزم وسط زحام الثانية عشرة.