في بلاد الثلج.. نهار كييف

كنت قد اعتدت أن أدخل المدن لأول مرة في الليل، عن غير عمد، وإنما هذا ما حدث في أسفارنا السابقة ـ مصادفة ـ لعدة بلاد، لكننا في ذلك اليوم، من صيف يوليو تقريبًا، دخلنا مدينة كييف في وضح النهار، ما أعطاني فرصة كبيرة لتأمل ملامح المدينة عن كثب.

أعجبتني الخضرة المحيطة بالشوارع، الحقول الخضراء، الأشجار العالية تحضن الطرق، البيوت الصغيرة التي تشبه الأكواخ القديمة، سرني مشهد لأوكرانيات فلاحات يجررن عربات خشبية صغيرة، يحملن فيها ما لذّ وطاب من الثمار الطازجة، جمعنها للتوّ من حقولهن الصغيرة، فسر لي زوجي حينها أن أرض المطار في مدينة كييف تعتبر جزءًا من الريف الأوكراني، نظرت إلى تلك الأوكرانيات الممتلئات البدينات، وهن يرتدين الفساتين الزاهية الألوان طويلة الأكمام، ويضعن على رؤوسهن إيشاربات مزركشة، وقد بدت ضفائرهن السوداء والصفراء على جانبي صدورهن أو ملقاة بتلقائية إلى الخلف، نظرن لنا وهن يلوحن ببعض وحدات ثمار الكرز والتوت الأزرق في أيديهن، حييناهن بابتسامة، ولم يكن باستطاعتنا أن نوقف السيارة لنبتاع منهن، كنا في عجل من أمرنا، فأنتم لا شك تعلمون إجهاد السفر، وهوجة الأمتعة.

كنت قلقة بعض الشيء، وسؤال معتاد يلح عليَّ كعهدي دائمًا عندما أسافر مع أسرتي لبلد جديد: ترى كيف ستكون حياتنا في أوكرانيا؟ وهل سيصدق انطباعي الأول عن طبيعتهم الباردة غير الودودة النافرة للأجانب؟ أم أن حدسي سيكذب هذه المرة؟

كنت أعلم أن ارتدائي للحجاب في أوكرانيا سيكون غريبًا بعض الشيء، رغم أنهم عرفوا الإسلام من التجار الأتراك الذين كانوا يتبادلون التجارة معهم في الأزمنة الماضية، عبر البحر الأسود الذي يفصلهم عن تركيا، ولذلك تعجبت! لِمَ يستغربون الحجاب كزي إسلامي معروف لهم من قبل؟!

كان زوجي -كما أخبرت- قد سبقنا إلى أوكرانيا بشهرين؛ لتسلم مهام عمله بالسفارة المصرية هناك كدبلوماسي، وليعد لنا مكانًا مناسبًا للإقامة بها، ولما حضرنا تلقينا دعوة كريمة من أحد الزملاء على العشاء. كانت هذه أول مرة أنزل فيها إلى شوارع مدينة كييف، فقد كان المطار بعيدًا عن الشوارع الداخلية للمدينة، ركبنا السيارة!

تأملت شوارع كييف المليئة بالمطبات، وتأملت البنايات الرمادية اللون، والأسقف القرميدية الحمراء، لفت نظري أن جميع البنايات تشترك في وحدة بناء واحدة؛ هي وحدات الطوب الحراري الصغيرة المستطيلة الشكل، ربما ذلك مقصود؛ لمنع تسرب الأجواء الباردة إلى داخل المباني. أتعرفين آلة الزمن التي شاهدنا أفلامًا سينمائية كثيرة عنها؟ تعرفينها بالطبع، هذا ما شعرت به بالضبط عندما ترجلت في شوارع كييف، شعرت بأننا في الثلاثينات، أو بالكثير في الأربعينات، المدينة بدت قديمة تمامًا، وكأنها لا تعيش في العصر الحديث، تعيش عصر أفلام الأبيض والأسود، رأيت عربات نقل قديمة، عربات تروماي كهربائي، خيِّل لي أن «لينين» قادم للترحيب بنا.

سأستأذن منكم الآن، وسأكمل في المرة القادمة بقية حديثي عن تفاصيل دعوة العشاء، وما حدث لي بعد ذلك في بلاد الروس.

«يتبع»