مع إطلالة رمضان الماضي، وفي أول جمعة من الشهر الفضيل، رحل عنا الكاتب الجزائري الكبير الطاهر وطار، وصام عن الحياة صيامًا أبديًا.
عاد الطاهر إلى مقامه الزكي في عليين، بعد أن خاض غمار هذه الحياة بالطول والعرض كبطل ملحمي منذور للعواصف، وجلائل الأعمال، لا تلين له قناة، ولا يقر له قرار.
أستحضر هنا مقولة كنت أرددها في بعض المجالس التي كانت تجمعني بالطاهر وطار:
- تصوروا هذا العالم أيها الإخوة بدون الطاهر وطار؟!
بصيغة الاستفهام الإنكاري كنت أردد هذه المقولة
وكان وطار يرد عليها بابتسامة ساخرة بعيدة الغور.
وها أنذا بعد أن حم القضاء، ونزل البلاء، ورحل وطار، أجدني في مقام مديح واحتفاء، لا في مقام رثاء وعزاء.
إن الناس عادة، حين يرحلون عن هذه الحياة الدنيا، يصبحون موضوعًا للرثاء والعزاء، لكن شخصية وطار الفريدة من نوعها، والقوية بطبعها، تدعو إلى المديح، والاحتفاء أكثر مما تدعو إلى الرثاء والعزاء.
كان الرجل ممتلئًا بالحياة، وحب الحياة، حتى في أحلك الظروف وأقساها، كما كان تبعًا، كارهًا للبكاء والرثاء، حتى وإن كرثته الكوارث، ونابته النوائب، بل لم تكن هذه الكوارث، والنوائب سوى محك، ومصهر لإرادته، وعزيمته، تزيدهما قوة، ومضاء، تمامًا كما تصهر النار الذهب الإبريز.
عرفت الطاهر وطار معرفة شخصية، منذ أواسط الثمانينيات من القرن الفارط، في لقاء أدبي عربي بالشارقة، كنت وإياه ممثلين للحضور المغاربي.
بهرتني الشخصية التلقائية الأصيلة للطاهر وطار في هذا اللقاء، كما بهرتني الشخصية التلقائية والأصيلة لمبدع مشرقي آخر في اللقاء ذاته، هو المبدع العراقي جمعة اللامي.
كان فوزي عظيمًا بمعرفة، ومصادقة هذين المبدعين الكبيرين، والطيور على أشكالها تقع،
ومنذئذ توثقت عرى المودة، والإخاء بيننا نحن الثلاثة، وكان وطار جاري الجنب، لا تفصلنا سوى حدود مصطنعة.
في سنة 1989، أسس وطار جمعيته العتيدة الجاحظية، ذات الشعار السمح (لا إكراه في الرأي).
كما أسس ضمن فضاء الجاحظية، جائزة مفدي زكريا للشعر المغاربي، التي حولها مؤخرًا إلى جائزة مفدي زكريا للشعر العربي.
واقترحني وطار عضوا في لجنة تحكيم الجائزة، التي كانت تضم أدباء، وباحثين أكفاء، وأعزاء من تونس، والجزائر، والمغرب.
تقع الجاحظية في قلب الجزائر النابض، ومركزها الشعبي، في شارع يحمل اسم رضا حوحو، ولحسن المصادفة، فهو كاتب جزائري من رواد الأدب الجزائري الحديث.
فضاء الجاحظية فضاء جميل ومتواضع، يشتمل على بهو فسيح، ومكتبة عامرة، ومكاتب، وأوراش، ومقهى يديره عمي سعيد، وفي صدارة الجاحظية، المكتب المشرع دائمًا لشيخ الجاحظية، ولراعيها الطاهر وطار، أو «عمي الطاهر» كما يحلو لجميع الجزائريين، ومن جميع الأعمار، والفئات، أن ينادوه.
ثمة في أعلى جدار الجاحظية صورة لشاعر الثورة الجزائري مفدي زكريا، وفي جدارية مكتب وطار، صور عديدة لكبار الكتاب، والمبدعين الذين استضافتهم الجاحظية إلى جانب صور بعض المبدعين الجزائريين.
يتكون طاقم التسيير الإداري، والإعلامي للجاحظية، من فتيات جزائريات في عمر الزهور، يشتغلن بدأب، وحماس، ويستقبلن الزوار بدماثة، وإيناس.
على مدار اليوم، تظل الجاحظية منتجعا للزوار المثقفين، والمثقفات من كل حدب وصوب، وصدر وطار مفتوح للجميع بكل ألفة، وحميمية، وحواره الثقافي مفتوح مع الجميع بكل أريحية ومودة.
حين أتأمل هذه المشاهد الجميلة، وأنا حال بالجاحظية، أدرك سر هذا الصمود المعنوي، والجسدي الخارق الذي يتمتع به «عمي الطاهر».
لا يمكن لي أن أنسى بتاتًا تلك الجلسات العائلية الحميمة لوطار، في دارته الوادعة الدافئة مع زوجته، ورفيقة دربه السيدة رتيبة، ومع ابنته المثقفة الجميلة، وحفيده الصغير، الذي تربطه به علاقة خاصة، ونحن ضيوف مكرمون لديه، يشركنا بهجته العائلية، بعد يوم حافل بالعمل الموصول.
وطار رائد الرواية العربية في الجزائر منذ مطالع الخمسينيات من القرن الفارط، لكن رواياته تسامت، وتضارع في قيمتها، و«روائيتها» شوامخ، وغرر الرواية العربية، وتشكل عزفًا متميزًا على وتر هذه الرواية، ولا يمكن من ثم، فتح سجل الرواية العربية، دون التوقف عند روايات وطار، وروائعه.
ومع كل فتوحاته الروائية المشهود بجدتها، ومع كل الفتوحات الثقافية، النضالية التي خاض وطار غمارها كمثقف عضوي بامتياز، بقي دائمًا، إنسانًا بسيطًا، ومتواضعًا، وأصيلاً يأكل طعامه، ويمشي في السوق.
وتلك هي صفة المبدع الحق.
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
على روحه السلام.