دُعيتُ مرّةً إلى لقاءٍ أدبي أعدَّهُ نادي الكتاب في الجامعة الأميركية في بيروت حول روايتي: "الإقلاع عكس الزمن". وكان تحت عنوان "أميركا في نظر الآخرين". ذلك أن هذه الرواية تدور أحداثُها بين مكانين: القرية اللبنانية والمهجر الأميركي. كما بين حضارتين: تقاليد الريف والعالم الجديد، أميركا. وتحاول مع كل سطر إبراز الفهم وكشف المجهول، من خلال الشخصية الرئيسية "رضوان أبو يوسف" المهاجر لأول مرّة لا خارج وطنه وحسب، بل وخارج مجتمعه التقليدي المحدود. وهو، مع كلّ خطوة يخطوها في خلال رحلته لا يتوقّف عن المقارنة واستحضار "الهُنا" و"الهُناك".
وفي حينه، نبّهتني تلك الندوة إلى أهميّة الإصغاء إلى الآخر، من أجل فهم أعمق لأنفسنا، وأفكارنا.
لكن المؤرّخ الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الكتابة عن أشخاص عَرفهم في قريته، ذهبَ بعيداً من خلال السرد، إلى خلفيات نشأتي في القرية، وفتح عينيّ لكي أفهمَ وأُقدِّر الإختلاف في النظرة، كما في الرأي.
وفي بعض فصول روايته، راح يحكي عن فتاة صغيرة، وفقيرة، ومن دون أن يذكر الأسماء، إلى أن تبلغ الحكاية ذروتها عندما تتجاوز تلك الفتاة كلّ العقبات، وتحقّق أحلامَها من خلال طموحها إلى العلم. ومثله فعل كاتب آخر من القرية ذاتها، فمضى يروي الأحداث من وجهة نظره فقط. وقد سيطرت المبالغة على بعض فقرات الرواية، ومضى يحلّل على مزاجه وهواه؛ حتى بلغ به التطرّف أن يؤكّد بأن بعض عناوين رواياتي مستوحى من حدثٍ معيّن ذكره وحدّد أوصافه.
واكتشفتُ، لدى قراءة تلك المذكرات المكتوبة من وجهة نظر فردية، بأن الدرس الوحيد الذي يمكن أن أتعلّمه من خلال ما قرأت، هو اكتشاف الإختلاف الكبير بين ما نعرفه عن أنفسنا، وما يراه الآخر؛ ونحن، حين ننظر إلى المرآة، نبصر في معظم الأوقات، وجهَنا الطبيعي والمألوف.
إنما هناك مرايا تعكس حالاتٍ وأشكالاً لا تُحصى، للوجه الواحد.
وهذا ما يحدث، بالطبع، لأفعالنا، وسلوكنا في نظر الآخر. فهناك من يرانا على حقيقتنا، بينما يُبصرُنا آخرون من وجهة نظرهم المختلفة، والتي تكون، في معظم الأوقات، متأثرة بشعورهم وأحكامهم.