في وداع الطفلة العابثة


لا تفرحي بدمي الذي سال في حبك، فسيطاردك دمي أنَّى ذهبتِ، يقتفي خطواتك مطالبًا بديّته، سيرسم دائرة حولك، وعلامة استفهام، وعلامات تعجب.

دائرة تحاصرك وتسد أمامك أي مهرب؛ لتواجهي نفسك والناس بمدى فداحة جرمك، أن اتخذت من جمالك مطيّة ومسوغًا لقسوتك، وظننت أنه يعطيك الحق القانوني في اللعب غير القانوني بعقول وقلوب الناس.

أحاصرك وأسد عليك أي منفذ، لن تهربي من ديّة دمي، سأعلن عليك الحرب وأفضح إجرامك، سأجرّسك في أسواق المدن محلوقا شعرك ممزقة ثيابك راكبة حمارًا بالمقلوب.. سأنتظرك عند النِطع وسيّاف العدل مسرور بمهمته رافعًا سيفه ينتظر.. سيطير رأسك بين هتاف الجماهير المنتشية ويستقر عند قدميّ.

لا تصدقي كل ما قلته، فأنا لا أطيق أن تلعب نسمة بثوبك، أو تداعب شعرك بأكثر من لمسها المعتاد، لكن عندي علامة استفهام:

لماذا تمارسين هذه اللعبة بانتظام، كأنها تمارين الصباح، وتبدلين الرجال بأسرع من تبديل فساتينك؟ هل هو حب القسوة؟ للقسوة في ذاتها، مبرأة من أي دافع آخر؟ القسوة لوجه القسوة، أم تسخير للقسوة من أجل الانتشاء بالقوة؟ الاستعلاء بالقدرة على الهيمنة على أشداء الرجال والضحك على شواربهم وجرهم من الذقون إلى حيث تشائين واللعب بهم كمن تفتح الكوتشينة، وتوزع كل «ولد» و«شايب» و«بنت» كما تهوى وتشاء؟ أم أن كل هذا (قصتنا كلها وقصص الآخرين) يعود إلى نزق أصيل في شخصيتك؟ إنك لا تصبرين على الثبات في مقعد أو في مكان واحد، فكيف تصبرين على الإخلاص لرجل واحد؟

هكذا وصلت إلى الإجابة على علامة استفهامي، بل علامات استفهامي، وبقي لي الحق أن أتعجب.

يحق لي أن أتعجب، أتعجب طويلاً وكثيرًا، من قدرتك على الخداع، نظرة البراءة والصدق الشفاف في عينيك ولمستك الرقيقة، وفساتينك الجميلة المحتشمة، أتعجب من ضحكتك الصافية، وصوتك الطفولي، وبهجة الطفولة الشائعة في وجهك وحركاتك وكلماتك.. كيف أوتي كل هذا النقاء فحيح الحية ذات الجرس عند لدغتها الغادرة؟

أتعجب -ومن حقي أن أتعجب- وأتساءل، أسائل نفسي فلن تجيبي لأنك بعيدة: لماذا تفضلين الهجر دون سابق إنذار؟ لماذا لا تخبرين العاشق الضحية أنك سئمته وتأبطت ذراعًا جديدة؟ لماذا تفضلين أن يشاهدكما معًا ذراعًا في ذراع في مشرب أو شارع أو حديقة؟!!

علامات تعجب واستفهام كثيرة، وكلها تقود إلى استنتاج واحد:

أنت ظاهرة من ظواهر الطبيعة، والطبيعة لا تضيع وقتها ولا تصدع رأسها في البحث عن المبررات الأخلاقية لأعمال ظواهرها: من الوردة ذات الشوكة، إلى دوامة البحر، إلى وثبة النمر.

يبدو أننا مضطرون إلى أن نقبلك كما أنت، ونحمد الله على أننا شهدنا ذات يوم براءتك الصادقة، وجمالك البسيط الرقيق، وثيابك الهفهافة المحتشمة، فلقد كانت -ويا للعجب- حقيقة لا ادعاء، كما أن قسوتك حقيقة لا ادعاء، وهل نكف عن حب الوردة لشوكتها، أو النزول في حضن البحر لقناديله اللاسعة ودواماته المستدرِجة؛ لأنه يسحب أقدامنا للقبو المظلم الذي يضيئه الفسفور؟

الطبيعة كالبحر مليئة بالتناقضات، وهذا التناقض ليس بين ظاهر كاذب وباطن صادق، أو بين ظاهر بريء وباطن غادر، بل إن الوجهين معًا وجهان لظاهرة واحدة.. ليس جمال البحر وزرقته قناعًا كاذبًا يخفي به باطنه المظلم، بل جماله حقيقة، وظلمته الباطنية أيضًا حقيقة.

لقد بدأت بالغضب ومطالبة الدم، وانتقلت إلى التساؤل والحيرة، ثم التعجب من متناقضات البراءة والرقة والغدر والقسوة، ثم وجدت نفسي قد وصلت إلى الإجابة الشافية.

لكنها لم تُشفني من حبك.