من أي المحطات أبدأ، والمطارات استأنست بنعومة أحذيتي وبحفيف أثوابي. كم مدينة زرت، وكم من منزل سكنت! كنت أصنع زوارق ورقية ألقي بها في سراب خلته ماء، وأحلم بـ «ديدون» بعيدة، عيناها لا تشبهان عيون نساء المدن الغربية.
وها أنا أعود إلى حبيبتي العاشقة، تلك المدينة التي سكنتها وسكنتني، وبها رحلت إلى مدن أخرى. كانت تطل عليّ من نوافذ الغربة، تتسلّق الشرفات لتتأمل معي أماسي مفعمة بأريجها، وأنا أرقبها تستحم في بهاء الغروب. فوق ربوة خضراء كانت تبسط جناحيها الأبيضين، فيهما أرى بحار الدنيا تتفجر أمواجاً وبراكين وأودية، فهما سفينتي التي تعيدني إلى لحظة تظلم الدنيا، وأعتقد أنني تهت بعيداً عن حضنها الدافئ، وأصبحت عودتي مستحيلة، بعد أن كسروا خلفي جرة ومزّقوا الخيط الرابط بيني وبين طفولة خبأتها عن الأوجاع تحت وسادة أمي، المرأة الخاشعة إلى ربها.
آه كم بكيت وأنا أتلمس شعر دمية من قماش ثوبها العتيق، تلك العروس التي كانت أنيستي في وحدتي، وفي شعرها الذي يحمل رائحة ضفائر والدتي، كنت أمرغ وجهي وأغسل أوجاعي وهزائمي. دميتي التي كانت وسادتي، وأنا أحاول الصلاة بطريقة لا تحبها أمي، أن أتعود على عطور وتوابل تختلف عن عطرها.
أمي ومدينتي، منكما انطلقت لأعود إليكما، هي البدوية التي نفخت في دمي من روحها ناراً، وأنت المظلّة التي احتميت بها تحت سماوات مليئة بالغيوم والغربان، وبالرصاص، وبأشياء أخرى لا تشبه طيورها وفراشاتها، التي علّمتني الغناء وأهدتني الورود والقبلات.
على مدارج المسرح الروماني لعبت، وفي كهوفه اختبأت عن أنظار بنيات كنّ شريكاتي حينها في لعبة «الغمّيضة»، وفي الهروب من حصّة الرياضيات، التي تثير غضبي وتستفزني، فأترك المقعد مسرعة، وأهرع إلى الدرج الكبير أنا وصويحباتي، تاركات معهدنا الذي يتصدر الربوة مثل ملك هرم تحيطه أشجار السرو كالجواري، فاتنات مبتسمات إلى الفضاء المحيط به.
كان المدرج الكبير ينحدر بنا مباشرة إلى المسرح الروماني، ذلك المكان الذي احتوى صراعات كثيرة بين الإنسان والوحوش في أزمنة غابرة، أصبح يحتوي ضحكاتنا البريئة ولهونا الجميل وأغنيات فيروز وموسيقى «تيودوراكيس» الرائع، الذي علّمنا الرقص على إيقاع أوجاعنا، فرقصنا مع» زوربا الإغريقي» مثل زهرات تنبض بالحياة والحب، وتتفتح أمام قلب» بابولينا» العاشقة.
لم أكن أعي حينها روعة ما أنا فيه، ولم أكن أعلم أنني سأشتاق إلى تلك الأيام، سأفقد كل ذلك النعيم الذي لم تعوضه الحفلات الصاخبة، ولا فساتين الحرير والمجوهرات الغالية.
كنت وأنا طفلة ضحوكة أحب الضحك واللعب والغناء والرقص، وكان أبي يغضب مني كلما رآني أفعل ذلك، وعكسه تفعل أمّي، التي كانت تتجاوب مع غنائي ورقصي، وتدلّلني وتدافع عني، قائلة لأبي بصوت تملأه الحسرة على طفولة لم تبدأ: «دعها تضحك ما دام الضحك بلا فلوس».
لم أدرك حينها كنه قولها، لكنني بعدما أصبحت أبحث عن ابتسامة فلا أجدها، صدقته. في حمامات أنطونيوس كنت أصنع الفرح لي ولمن معي من صديقات، كنت أضحك ملء قلبي، وأبسط للريح أجنحتي الكثيرة الملونة، أنادي هانيبال الجميل، أول حبيب عرفته، ولم أبتعد عنه يوماً، حتى وأنا أرتبط برجل آخر، وأرحل إلى بلاد وراء البحر.
كان جنّتي وملاذي لحظة أصاب بخيبة أو أظلم، وخصوصاً حين يأتيني والدي بخطيب جديد يكبرني بعشرين سنة. كنت مثل زهرة جامحة، لا تهدأ ولا تلين، ولا تمتثل إلى القيود والأغلال، فتحطمها وتركض باتجاه المعبد القديم، تنفض الغبار عن الحجارة، تصقلها بدمعها المضيء، وإذا استعر من حولها القول، وضاقت السبل، تلقي بنفسها في الحريق، لكي تعود عروساً حسناء ترقص فوق رمادها.
لهانيبال كانت عروسا دائمة ترتدي أثواب العيد، وتزيّن شعرها بشرائط حمراء، وعلى خدّها يقتل الأقحوان نفسه، فيسيل إلى الأذنين، يصبغها بدمها الربيعي، مثل فراشة تطير إلى ذراعي بطلها، تحتضن الفرس الحجري الذي سرقوا رأسه منذ سنين قبل أن تراه، تزيح عن جبهة الحبيب غبار المعارك، وإليه تشكو حالها: أب ينوي تزويجها مع قدوم كل صيف، وابنة الجارة سرقت لعبتها المفضّلة، وزميلها في المدرسة كتب اسمها على شجرة الزيتون العتيقة. كان صامتاً، ينصت إلى صوتها العذب، وفوق شفتيه ابتسامة، وفي عينيه بريق لم تر مثله في عيون من عرفت بعده.
كم أنت جميل يا هانيبال، من غيرك تذبل الأزهار في قرطاج، فلا يجد العشّاق عصافير ترافقهم، ولا تنهض ديدون من رمادها لتغنّي للبحر أغنيات العائدين، من طوّح بهم الزمان خارج أحضان الأمهات والحبيبات.
ها أنا أكتب اسمك على أول ورقة في كتاب الذاكرة، حذو اسم «هانيبال» و»ديدون»، لأنه لا يمكنني الرحيل وحدي دون أن تكوني معي في كلّ المدن القادمة، يا قرطاج.