تسألني كيف أُصبحُ كاتبة؟
تسألني
الصبيّة: كيف أُصبحُ كاتبةً ناجحة؟
هكذا، دفعةً واحدة، تُواجهني بسؤالٍ تحتاج الإجابة عنه إلى سنين من البحث والتفكير والشكّ والتردّد.
<<<
وتُعيدني إلى نفسي كي أطرحَ عليها سؤالاً لم يسبقْ لي أن واجهتُهُ أو ناقشتُه بيني وبين حالي؛ وذلك لأن الوقتَ لم يتوفّرْ لي كي أتوقف وأطرحَ الأسئلة، إذ كنت دائماً أسعى، وأعملُ وأحاول تجاوزَ نقطة بلغتُها.
<<<
الكتابة فنّ.
وربما كانت من أصعب الفنون، إذ تحاولُ المراوغةَ والتسرّبَ من بين أصابعنا ومن خلال مشاعرنا.
وفيما نحسبُ أننا قبضنا على السرّ نُفاجأُ بأنه يبقى في حالةِ هرب وزيغان.
<<<
أذكرُ اني لم أتوقفْ مرّة، في مطلع حياتي، لأطرحَ على نفسي مثل هذا السؤال، إذْ كنتُ جادّةً في العمل، وتجاوز مسافات اجتزْتُها. وقد اتخذتُ من درسٍ طالعتُه، في إحدى المراحل، نَموذجاً ومثالاً، إذ كان يُشبِّهُ الطموحَ بتسلّقِ التلال، وأنت تجدُّ السعي؛ وكلّما تجاوزتَ مرحلة، واجهكَ التحدّي في ما يليها.
وهكذا تمضي في صعودٍ متواصل، ومحاولاتٍ كي تتخطّى ما حققتَه، ولا تلتفت إلى الوراء.
<<<
وسؤالُ الصبيّة معلّقٌ أمامي. وأنا على حبلِ الضمير معلّقة. أودّ أن أساعدَها، وأدلّها على الطريق. لكني أكتشفُ من جديد أنه لا توجد وصفةٌ سحرية، أو درسٌ مُحدّد يمكنُ تلقينه، أو إدراجهُ في كتبِ التوجيه أو التعليم، إذ لكل فرد أسلوبُه في السعي وفي البحثِ عن الطريق.
<<<
لكنّها لا تزال أمامي، وتنتظر.
وأعودُ أحفرُ في ثنايا التجربة كي أستخلصَ بعضَ العِبَر، أو ألتقطَ من غبار طرقٍ عبرْتُها. ذرّاتٍ أضعُها بين كفّيها.
<<<
ويا عزيزتي السائلة، الطامحة، الساعية:
أولاً، وقبلَ كل شيء، يجبُ أن تكون لديكِ تلك الموهبة، وهي مثل شرارة دائمةِ اللهيب، تلسعكِ وتقودك، ولا تترك لك فسحةً للراحة أو الاستقرار؛ حتى إذا غفوتِ لحظة، أيقظتْك كي تتأمَّلي في ما حولك، كما في ذاتك، كلّ حين وآن، وفي كل الأحوال والأوضاع.
وأنتِ، في كل ما تسعين إليه، أو تقومين به، من تحصيلٍ علمي أو عملي، لا تفارقكِ تلك الشرارة، إذ أنها المحرّك، والدافعُ الخفيّ الذي يقودك. كما تبقى الجاذبَ الذي يشدّك، دائماً، باتجاهها في محاولات دائبة لإطفائها والتخلّص من لظاها.
<<<
ومتى لامَسَتْك تلك الشرارة، لا يعودُ يهدأُ لكِ بال: فأنتِ في الجوّ تُحلّقين، وفي البحار تغوصين، وفي باطن الأرضِ تحفرين.
ودائماً تبحثين عن أشياء، تعلمين بالحدْسِ أنها موجودة في مكان ما، وهذا ما يدفعك إلى مواصلةِ البحث، لاكتشاف سُبُل الوصولٍ إليها.
وهذا ليس بالأمر السهل، إذْ يحتاج إلى سعيٍ دائم باتجاه دروب المعرفة؛ حتى إذا حسبتِ أنك بَلَغْتِها، تفاجئين بأنها ليست ما كنتِ تتوقين وتسعين إليه؛ فتحوِّلين وجهةَ سيرك نحو دروبٍ جديدة قد توصلك إلى المُبتغى.
<<<
كيف أُصبحُ كاتبة؟
تجلسُ الصبيّة أمامي، وتكرّرُ السؤال. وأتابعُ الحَفْرَ في أقنية التجربة:
لقد مضى نصفُ قرن على تلك الخطْوة الأولى مُذْ أمسكتُ القلم وباشرتُ الكتابة، ولا أزال أُحسُّني في أول الطريق؛ وقد ينقضي العمر، ولا تخمدُ نيران الأشواق.
كلُّ حرفٍ أخطُّه هو بمثابةِ الحرف الأول. وأكرّرُ التجربة وأُعيد. كما أن حالةً من الرَهْبَة تتلبّسُني كلما أمسكتُ بالقلم كي أباشر الكتابة.
وأعترفُ بأن القلم لا يزال رفيقي ووسيلتي للكتابة والتعبير، والورقة البيضاء لا تزالُ الحقل المفتوحَ لاستقبال كلماتي. ولم أحاولْ ولوجَ تلك العوالم السحرية التي يُقيم فيها كُتّابُ عصرنا الحالي، لأني أحسُّ بأن هذا القلم جزء من كياني، ويتصلُ بشرايين قلبي وذرّاتِ دماغي.
وبرغم صحبةِ السنين، ما زلتُ أشعر، كلما لامستْهُ أناملي، بأنها أول لمسة، وتسري في عروقي الرهبة، وينتابني خوفٌ وكأنها المواجهة الأولى.
<<<
هل تمكنتُ من شرح الحال، والإجابة عن سؤال الصبية الطامحة إلى الكتابة؟
لست أدري!...