لا أقسى من البين إلا كسر العين!

معادلة العين بالعين، والسن بالسن، يمكن لغير أولي الألباب فهمها واستيعابها، دون شرح أو تبسيط، لكن ماذا لو كان الأذى الذي أصاب العين معنويا محسوسا، وليس ماديا ملموسا؟!

حسنا، دعك من قول سلفنا الشعري: والعين تعرف من عين محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها!

إذ تبدو العين -أحيانا- كأنها همزة وصل سرية، أو همزة قطع رمزية، فهي رسول مودة أو إشارة مصرة، وقد تكون لغة تآلف وتقارب أو مفردة صدود وتباعد!

وفي الأزقة عندما كنا صغارا ندعي البراءة، ونقتات الشقاوة، ونعبث بالكلمات في حارتي «الأحامدة» و«المصانع» في المدينة المنيرة، كنا نتعاطى مفردات كبيرة مثل: «تحمير العين» أو «كسرها»، ومضى الزمان واستدار المكان، ولم نزل نردد: «فلان كسر عين فلان»، نردد ذلك ببلاهة برتقالية، تشبه بلاهة من يدخلون «سوق الأسهم» لتناول العشاء فيه، وإذا بهم يصبحون مائدة غداء عمل للأشداء الأقوياء من مضاربي وهوامير الأسهم، أولئك البشر الذين لا يحسنون غير ضرب صغار المتداولين بالساطور! ما علينا من هذه القصة كفانا الله وإياكم الخسائر، وارتفاع أسعار العمائر، وجشع أصحاب المتاجر! ما يهمني هنا هو تأصيل مفهوم «كسر العين»، وتحديد نسبه، والاعتراف بحسبه وأصالته، حيثُ يقول الجهشاوي في كتابه «الوزراء والكتاب»: (ومما ورد في شدة التحرز، ما حكي في كتاب من كتب الهند، أنه أهدي إلى بعض ملوكهم حلي وكسوة -أي ذهب وملابس- وبحضرته امرأتان من نسائه، ووزير من وزرائه، فخيّر إحدى امرأتيه بين اللباس والحلي، فنظرت المرأة إلى الوزير كالمستشير له، فغمزها بإحدى عينيه لتأخذ الكسوة، ولاحظ الملك ذلك، فعدلت عما أشار به من الكسوة، واختارت الحلي لئلا يفطن الملك للغمزة، ومكث الوزير أربعين سنة كاسرا عينه ليظن الملك أنها عادة، وخلقة).

انظروا إلى مرارة الخطأ، إنه يكسر العين ليس أربعين سنة، بل مدى الحياة، وقد تطور الآن كسر العين واتسع مجاله، فأصبح شاملا، وكل كاسر عين، هناك من يكسر عينه، ومع تمدد كسر العين فقد دلف -حلوة دلف هذه- إلى ميادين عديدة، ولا يصعب علينا اليوم أن نجد ذلك الإنسان المستسلم لمن كسر عينه، بحيث لم يعد بمقدوره النظر إلى وجه من كسر عينه.

 

ومن الأمثلة على ذلك الطالب الثري الذي يشتري بماله ذمة معلمه، حيثُ كسر هنا الطالب عين معلمه، مستغلا فقره وحاجته للمال التي تدفعه للدروس الخصوصية، وكلما زاد المال تضاعف كسر العين، خاصة في فترة الاختبارات، وما يتطلبه ذلك من مغامرة لجلب نسخة من الأسئلة.

ومن أمثلة كسر العين أيضا أن يقوم موظف بكسر عين مديره إن كان الموظف أكثر كفاءة منه، وغالبا يكون ذلك الموظف من حملة الشهادات العليا، الذين يريدون وظيفة مريحة بالحد الأدنى من المسؤوليات، فلا يسعى إلى منافسة مديره على المنصب، وقد يكسر الموظف الأدنى أيضا عين مديره، إن هو قدم له خدمات خاصة، أو اطلع على خصوصيات لا يجب أن يعلم بها أي شخص خارج الدائرة الضيقة.

كل هذا استثناء لكسر العين في الجانب الإداري، أما ما ليس استثناء، فهو كسر العين الذي يمارسه المدير على الموظف، بواسطة التسويف الذي يمارسه إزاء الحوافز والترقيات المستحقة.. حسنا، ماذا بقي؟

بقي القول إن كسر العين متنوع، كتنوع البشر، وهناك فئة من الناس الذين يتكفل الزمان بكسر عيونهم، إذ لا ينفعهم استجداء، ولا يجيرهم دعاء!