جاءني أيتها الجميلة النائمة، ذات الخصلة الناعمة، والشفة المنمنمة، أن الأمير «قاهر قان» حين جفل به الحصان، وقع من سرجه فنام ساعة من الزمان.
وفتح عينيه فإذا أمامه غادة من الحور الحسان، فخفق قلبه خفقتين جاوبتهما من قلبها خفقتان.
قالت له: ما اسمك؟
قال: عبدك قاهر قان..
مدَّت له يدها فسارا يدًا بيدٍ في غابة زرقاء، تطرح زهرًا مختلفًا ألوانه ذا عطور تخدّر الإنسان.
قال «قاهر قان» لآسرته:
سيدتي: إلى أين نحن ذاهبان؟
وقبل أن يسمع ردًّا حمله العطر ورماه في بستان.
< < <
فتح الفارس عينيه مرة أخرى، وإذا حصانه يرعى بقربه، والفتاة الساحرة تسقيه من جرّة لبن، وتطعمه من تفاح المكان.
قال: أين أنا؟ قالت: أنت حيثُ أكون.
ثم حضنت عودها، كما تحضن أمٌّ ولدها، وغنت هذه الأبيات من شعر المجنون:
تَشَكَّى المحبون الصبابةَ، ليتنِي
تحمَّلت ما يلقون من بينهم وحدي
وكانت لقلبي لذة الحبِّ كلها
فلم يلْقها قبلي محبٌّ ولا بعدي
فلما سمع غناءها «قاهر قان» طار عقله من النشوة، ورقص طربًا، وعيناه تبكيان، ووقفت أمامه الصبية، قالت: سيدي، ماذا تأمر اليوم والساعة؟
فرفعها بيدٍ واحدة، ونظر في عينيها طويلاً، فغاب عن الدنيا للمرة الثالثة.
< < <
ثم فتح عينيه فإذا هو في قاعة سقفها من مرمر، وجدرانها من مرجان أحمر، وقد مدّت فيها مائدة تحمل من خير البر والبحر، فسقته الصبية بيدها وأطعمته من الطيبات، وصدح لهما سرب من الجواري المغنيات، كل واحدة تنحني على عودها، كالأم على مولودها، وتغني بين كأس من الحلال وكأس، مرة من شعر أبي نواس ومرة من شعر قيس:
شكوتُ إلى سرب القطا إذْ مررن بي
فقلت، ومثلي بالبكاء جديرُ
أسِربُ القطا، هل من يعير جناحه
لعلي إلى منْ قد هويتُ أطيرُ؟
وكانت فتاة «قاهر قان»، التي لا يعلم اسمها إنس ولا جان، قد مالت برأسها على كتفه وراحت في نعاس، فثقل جفناه وتخدر جسمه، وطارت روحه وتخلف جسده، فإذا به في سفرة رابعة، تفتحت له فيها أسرار، وقابل منْ قابل من عشاق وفرسان، رووا له حكاية الإنسان..
< < <
وبعد ساعة من الزمان، صحا الفارس فإذا هو على فرسه ما زال، واتضح أنه نعس في سفره الطويل، وهو لحصانه مطمئن البال، فكم سافرا معًا، وحاربا معًا، فكان الذكي المخلص الأمين.
وشرب «قاهر قان» من زمزميته شربة، ومسح بكمه فمه فاندهش، كان فيه عطر ليلة البارحة.
< < <
ومنذ تلك الساعة، «قاهر قان» يلفّ البلاد على محبوبته، وكلما يئس تضوّعت من ثيابه نفحة عطر، فأعاد الكرّة وعاود السَّفرة، بقوة الحنين والحنان.
< < <
وأدرك شهريار الصباح
فسكت عن الكلام المباح
وكانت الجميلة نائمة تبتسم
< < <
كان كل هذا حلمها
فمنذ زمان وليلى..
تقرأ «ألف ليلة وليلة»
وحين نامت في الليلة الألف
تفتحت لها أبواب الخيال
فباتت في أضغاث أحلام حسان
وسهر شهريار نفسه
عند قدميها
يحكي ما علمته شهرزاد
< < <
وهكذا يحلم الجميل بالجميل
والشباب بالشباب
ومنْ تفتح قلبها للهوى
تحلم بالهوى
ومنْ قرأت عالم الحواديت
تزورها الحواديت في المنام
< < <
وهكذا حلمت الغادة بمن حلم بها
حلمت بقاهر قان من لا أسمِّي اسمها
وحلم بها المسافر على حصانه
فمنْ منهما الحقيقة ومنْ هو الخيال؟
وهل سيلتقيان؟