لا تختبر صبري أيها الشيء الضال».
قالت وفي عينيها احتجاج على وجودي. قلت لها: «سأضرب في الأرض مبتعدا عن ثراك، عن بلاد عيونك التي ترفضني».
فاندلع في داخلها جحيم من الرفض لمجرد سماع صوتي:
«لا تستخدم الأكسوجين الذي يحيط بأنفي، ابتعد على الأقل مترين قبل أن تغادر البلاد».
فاستشطت غضبا من عيونها السوداء، وقررت أن أحتج أنا الآخر، أن أفرض حقي في الوجود على مجال تنفسها، على بيتها وحديقتها، وبلادها التي نسيت أنها أيضا بلادي. قلت:
«لقد اختبرت أنت صبري، وهاهو ينفجر في وجهك. وأنا كفرت بكل ما فيك من جمال فقد إنسانيته. سأبقى هنا وسأتنفس كل الهواء الذي يحيط بوجودك، وسأغرس رايتي فوق تبة أخرى، وأقيم خيمتي في ظل حديقة أجمل من هذه».
قالت: «لا يهمني. انصرف فحسب، وافعل ما شئت بعد ذلك».
«موعد انصرافي أحدده أنا وحدي. ليس قبل أن أستهلك كل الأكسوجين الذي تظنين أنه يخصك، وأتركك مغيبة في سحابة من ثاني أكسيد الكربون»
مرت خمس وعشرون سنة على هذه المحادثة الغريبة. وكنت قد نسيتها ونسيت صاحبتها منذ زمن طويل، حتى اصطدمت أول أمس –وكنا ساعة الغروب- بعينين سوداوين. نفس السواد الحالك الجميل المتغطرس، المتعصب الرافض لأي نقاش، الذي يشطب ويحتج على وجود أي شيء لا ينال رضاه، وينظر باحتقار للأشياء التي لم يختمها بخاتم القبول، ويريد بنظرته المشتعلة بنار متأججة سوداء أن ينفيها عن ملكوت سلطانه.
اعتقلتني العينان لحظتين، وكنت قد تعرفت عليهما فورا، ثم أطلقتاني لأسرح فيما آل إليه ملك جمالها. وجه تجعد كورقة لم يرض عنها كاتبها فعجنها ثم رماها، ثم عاد الزمن الساخر ليقرأ فيها الناس سخرية الحياة بالأحياء. جسد هزيل يرتعش، ملابس فقيرة. لكن العينين –ويا للعجب- هما العينان. نفس العينين المتغطرستين المتكبرتين. نفس الرفض لوجود أي شيء ما عداها، أو ما تتنازل فتقبل وجوده من كائنات استثنائية. والأعجب أنها كانت تسأل العابرين! تسألهم بعينيها الإعجاب والانتباه القديم، وكأنها تمد لهم يدها. والمذهل أن عينيها في تسولهما احتفظتا بتلك الكبرياء وبذلك التعالي الذي نفاني بإرادتي من ملكها وهي بعد في أوج الصبا.
حين التقينا وجها لوجه كانت عيناها بدأتا تتسولان في عظمة، لكنها انتفضت حين عرفتني ملدوغة بوجودي الذي كانت قد رفضته ونفته من ملكوتها. وقرأت في وجهي أني عرفتها. عرفتها بعد أن لم تعد جميلة ولاشابة ولا محاطة بالمريدين الولهانين والخاطبين. قرأت في وجهي:
«أي نعم. هذا أنا. دار الزمان والتقينا. بعد أن صرت أنا الأعلى. أيتها المتعجرفة الشحاذة التي كانت يوما جميلة وسيدة».
هذه حكاية قد تكون قد حدثت وقد لا تكون. فقط اقرئي فيها يا صديقتي ما يجب أن تفهميه: الحسن وحده دون جمال الروح ينهزم ولو بعد حين. أما جمال الروح فهو باق ينير وجه العجوز المتغضن، ويصونها من انتقام الزمان، ودعوات الذين ظلمتهم في صباها من تقرن الكبر مع الجمال مع حاجبيها المقرونين.
قالت لي لا تختبر صبري.. أيها الشيء الضال، لكنني لن أترك القبح يتسلل إلى نفسي فأشمت، لقد تنفست كل الأكسوجين الذي أريده، ولم أنهزم أمام عزة حسنها، الذي فقد سلطانه عليّ حين ظهر قبح روحها، وأطل من عينيها السوداوين.
حين ظنت أنها أحرقتني بنارها السوداء، ثارت كبريائي أنا. وهي كبرياء مشروعة، كبرياء الدفاع عن الكرامة. فتركتك تحترقين بنارك ومضيت.
انظري ماذا فعل الزمان بك، وليتعلم كل جميل من حكايتها أن يصون نفسه من داء الجميلات: الغرور، الذي قد يقود للتكبر الذي قد يؤدي لظلم الناس، والذي يشوه في النهاية الجمال نفسه