أغمض عيني، الليل يمضي، والنوم، وما زال بعيدا، وقطبي المرهق يعدو في أثري، أحمله ما لا يطيق، وأخشى ما أخشاه أن يتعثر في لحظة، أن يكبو، أمامي سفر طويل، فلماذا لا أهجع؟ لماذا لا أوغل في النوم؟ هل نامت هي الآن؟ كيف تنام؟ عارية، كل ما تحمله حقيبة صغيرة، هل هي بين ذراعي رجل أجهله؟ ربما استدعته بالهاتف بعد انصرافنا، مرافقي هذا الذي كان يبتسم صوبي، ربما عاد إليها، ميراثه من نبع ميراثها، وما يمكن أن أقطع المراحل من أجله، يصل إليه هو في إغماضة عين، في عبارة، هل تتقلب الآن أم تغمض عينيها؟ أم تعض شفتها السفلى المرتوية والتي تحاول أن تسيطر على انفلاتها إذ يدركها السرور فتبتسم ضاحكة، ربما تسخر مني معه، الانفراد، أي انفراد يا هذا؟ قمت من رقادي، قعدت دهشا، متطلعا إلى رمادية الضوء، إلى النهار الآتي من بعيد، أرق هذا أم سهاد؟ ما أنأى المسافة بيني وبين مضجعي وما أقربها، يحتويني وأنا نافر عنه، ناءٍ، كم تبقى على الرحيل، سويعات لو هجعت الآن فلن أمضي الوقت الكافي لأريح قلبي، لم أكن يا أخي إلا مشفقا عليه، راصدا لدقاته، برودة نفذت إليّ، من آوته هذه الحجرة، من استغرق، ومن أرق مثلي، هذا المكتب، والصوان، ودورق الماء، والراديو الصغير، وحقيبتي التي لم أخرج محتوياتها، فما هي إلا ليلة ثم رحيل، رحيل في رحيل، أما اللوحة الياقوتية فعلى مقربة مني، كان المفروض أن تكون بالقرب منها، تساءلت بصوت هامس، مسموع، لماذا أقسو عليها؟ لماذا أستنفر الجفون؟ ما ذنبها؟ إنها لا تعرفني، تجهلني، وما أنا إلا فرد في جمع، دنا منها واقترب، هذا حقيق، ولكن جميلة مثلها لابد أن القصّاد سعوا إليها وحطوا عندها، وأسمعوها من الكلمات أدقها، ألم تقل لي عندما ناديتها، عندما أظهرت لها البادرة الأولى.
وكيف أصدقك؟
كنت مؤملا في إحساسها الأنثوي، فما عندي تجاهها إلا صدق النوايا، وبدا لي أن ما عندي سيصل إليها، ستدرك ولكنني كنت أعوّل عليّ بي، وأطلب العون مني، فما أضيق الساحة، وأقصر المسافة، إنها تخرج إلى جهات شتى، وتلتقي بكثيرين، فأنى لها أن تدرك؟ وإذا أدركت فكيف ستعرف، وتميز؟ هكذا اتضح الخيط الأبيض من الأسود وأنا مهموم، مشغول بتلمس العذر لها، والتبرير لما أتته، تتزايد حدة الضوء، تبدو لي ليلة أمس بعيدة، رحت أتطلع إلى النهار آيسا من النوم، لو أغفو ولو نصف ساعة، غير أن خواطري كلما اقتربت من الفراش، من الضجيع، نأى جسمي وابتعد، هكذا فارقت الفراش، وقفت في مواجهة الشرفة مدججا بنصبي وتعبي، محاطا بوحدة صماء، عبر الزجاج الذي أسدلت عليه الستائر الشفافة، وحتى أرقب المعالم التي تتكون على مهل، تخرج من العتمة، أرصد تغير الملامح، أرقب حدود الحديقة الأمامية، وشجرتي التيوليب، من هنا كان البدء، بينهما سعت، وفي مجالهما اكتشفتها، رأيتها، كنت أصغي إلى الصمت الساري عندما وقع ما استهدف دفق قلبي، إذ رن يا أخي جرس الهاتف، تطلعت إليه مترددا، ماذا... هل يمكن أن تكون هي؟ أتدعوني؟ هل مرت بما مررت به؟ هل تدعوني لنقابل النهار الطشقندي الوليد؟ معا، اتصل الرنين، ملحا، مصرًّا، قطعت ما مقداره خطوة مثقلا بالضنى، بالعتاب، لا أدري كيف جوابي إذا لاقيت صوتها؟ رفعت الساعة واجف القلب، ممسكا عليّ أنفاسي، غير أنني فوجئت برجل يتحدث بلغة لا أعرفها، مجهولة تماما عندي، لم أفهم غير أن الصوت يحوي نبرة السؤال، قلت بالعربية:
لا أعرف. لا أعرف
أغلقت الهاتف، عدت مقعيا فوق فراشي، وغمامة جديدة تسري في سمائي، من هذا؟ من أي جهة؟ وماذا كان يريد؟ ومن كان يريد؟ ولماذا في هذه الساعة؟ أم أنه شخص ما يرمي إلى التأكد من تواجدي في الغرفة؟ لا أدري. نفضت هذا عني، تطلعت إلى ساعتي، لم أبدل توقيتها، الثانية إلا ربعا بعد منتصف الليل في دياري الآن، أضفت أربع ساعات، كنت قد اجتزت هذا الحد الفاصل بين ذروة التعب، وبين بدء طور جديد يحدني التعب السابق، مبتدئا ما لا أدري إلى أين سيتجه بي؟ وليت وجهي تجاه النهار القادم، فتُّ إمكانية النوم بمدى سحيق، واجهت الضوء المتزايد كاتما ضري، منطويا على ما استقر في حشاي من نوى، كنت مستسلما لوصول النهار، فأنا يا أخي حسير!