كانوا هناك لوداعي.
وأبصرتهم فوق أرض مطار غربتهم. الإخوة والأخوات.
أبناء العم والأقارب والجيران.
طيور أيلول المهاجرة.
والتقوا في المطار لوداعي.
<<<
وقبل ان أرتقي سلّمَ الطائرة، دسَّ أحدُهم في جيبي، رزمة أوراق، ثم أدارَ ظهرَه وتوارى في الزحام.
وعندما خلوتُ بنفسي، ومددتُ يدي الى جيبي، شعرتُ بأني أقبض على جمر.
هل يمكن ان تتحوّلَ الكلمات الى جمرٍ حارق؟
<<<
لقد نقلتْ إليّ تلك الأوراق شذراتٍ من ملحمة الغربة.
وحين اضطرَّ أولئك الأحبّاء الى هجر قريتهم، كانوا يُسجّلون شهادةً دامغة على تقصير البلد عن احتواءِ أهله؛ كما كانوا يؤكّدون طموحَهم، وشجاعتَهم وحبَّهم للمغامرة، وتحدّيهم لأقدارهم.
<<<
ومن الرسالة الأولى قرأت: أتذكرين تلك الليلة، وبعدما انصرف الضيوف، وأوى أفرادُ عائلتي الى النوم؟
طلبتُ منك أن تسهري معي، كي أقصَّ عليك ما عجزتُ عن روايتِهِ لأيِّ إنسان.
طبعاً، كنتُ أعلم ان طائرتك تُقلعُ في الصباح الباكر، وأنكِ بحاجةٍ الى الراحة؛ لكني انتظرتُ تلك السانحة خمسين سنة، وكتمتُ الحكاية، إذ لم يكن هناك من يفهمُ لغتي.
وهذا ما دفعني لأُخرج كلماتٍ بقيتْ مدفونةً طيَّ جدران صدري زماناً طويلاً.
<<<
حكيتُ لك عن الماضي، حين لم تكوني قد ولدتِ. وعندما هاجرتُ أنا هرباً من الظلم والخدمة الإجبارية في جيشٍ يظلمُ قومي.
<<<
وكانوا يقودوننا في الطرق الوعرة، والسوطُ يلوِّح فوق رؤوسنا. وأسمعتُكِ حكايةَ الفتى الطامح، وكيف اجتازَ المسافة الطويلة سيراً على قدميه، كي يرتمي في حضن البحر، مسلماً نفسه الى قدر مجهول.
<<<
وظلّ أحبّتي هناك، حيث تركتُهم في الإنتظار.
منذ خمسين سنة وأنا أزورُهم في الليل.
أسرقُ نفسي من عائلتي هنا، وأهربُ إليهم هناك، وأسرحُ بين التلالِ والكروم.
أسمعُ صوتَ أبي يهدرُ في أذني، وأرتمي في حضنِ أمي. وأقبّلُ وجناتِ إخوتي الصغار. ثم أعود في صباح اليوم التالي الى الواقع. وأتذكّرُ بأن الصغارَ قد كبروا من زمان، وانتقلَ أبي وأمي الى ديار البقاء.
وأطالعُ كلَّ يوم الأخبار، وأبصر كروم العنب والزيتون، ومن خلال نشراتِ الأخبار، أُبصرها تحترق بنيران العدو.
وبرغم ذلك، يبقى المحيطون بي، هنا، عاجزين عن فهم حرقتي. ويسألون: ما الذي يَحولُ بينك وبين السعادة؟
وأجيبُهم بصوتٍ خافت:
ـ لا شيء سوى نقطةِ النار الخفية، والملتهبة في عمق كياني.
<<<
ومن الرسالةِ الثانية:
كنتِ ما تزالين طفلةً، يوم غادرتُ أنا القرية، أيَّتُها القادمة إلينا من خلف ضباب الأيام.
ربما كنتِ بين الصغار الذين تسلّقوا سورَ الحديقة وأشجارَها كي يُشاهدوا الفرح. أعظم فرحة عرفتها قريتنا في حينه. أوَ لم تخبرْكِ عنها أمُّكِ أو جدّتكِ؟...
أوَ لم تشاهدي صورة الزفاف، معلّقةً في بيوت الأقارب؟... وأنا الصبية الحلوة في ثوب الزفاف، وأقف بكثير من الغبطة، الى جانب المغترب الثري، وقد اختارني عروسَه وشريكة عمره؟..
وقد أتاني في مهرجان ثرائِه وكنتُ يتيمة وفقيرة. وبحاجة الى حنانِ الأب، وأتوقُ الى الهرب من القفص الضيِّق، في قريتي.
وهكذا اغتنمتُ تلك الفرصة، وهاجرت. وعشتُ سعيدةً في كنَفِه. وبقيتُ الزوجةَ المخلصة، والأمَ المثالية لأولادي، حتى كبروا، ثم غادروني الى الالتحاق بطموحهم، والى حيث يحققون أحلامَهم.
<<<
ومن الرسالة الثالثة:
أُذكِّر نفسي، في كل لحظة، بأني لستُ مهاجراً أو مغترباً، لأني قصدتُ هذه البلاد كي أتابع تحصيلي العلمي. وفي كلّ صباح ومساء أُكررُ العبارة: أني هنا، لأجل العلم. وترافقني في كل خطوة وصيّةُ أمي، بأن أعودَ اليها، والى الوطن.
<<<
وتعلم أمي بأني فقدتُ طعمَ العيش حين لم تعدْ يداها تُعدّان قهوتي وخبزي.