من نافذتي


هذا المساء لم أسمع زقزقة العصافير.

وهي التي اعتادت ان تتآوى في أعباب شجر الكينا المحيط بالساحة أمام دارنا.

أشجارٌ باسقة؛ ويُقال أيضاً إنها مفيدة لتنقية الهواء. كما ان الناس اعتادوا، قبل ابتكار العلاج بالأدوية الطبية، ان يُفيدوا من ورق الكينا، يغلونه بالماء، ويسقون عصارته للمرضى، خصوصاً حُمّى الملاريا.

أو هكذا كانت تقول وصفات الأقدمين.

<<<

 

لكن هذه الأشجار المحيطة بأبنية الجوار، تتآلف معها وتتواصل. وتُحاول، في كل فصل وموسم، أن «تشبَّ قليلاً عن الطوق»، علّها بذلك تبلغ مستوى سطوح المباني المحيطة بها.

<<<

 

وأنا أحبُّ هذا النوع من الشجر، في شموخه وبهائه؛ ثم في قوّة المقاومة التي تجعل الواحدة من تلك الأشجار، تعمِّر مئات السنين.

<<<

 

أقول هذا، وفي بالي أشجارُ الكينا الدهرية، المغروسة على طول الأرصفة المحاذية لأحد فروع النيل العظيم، ويمرّ في القاهرة. وقد اتخذتُها صديقة، تؤنس غربتي كلما نهضتُ لرياضة الصباح.

<<<

 

أما أشجارُ الكينا في حيِّنا البيروتي هذا، فلم تبلغ من العمر عتيّا، ولا تُوازي تلك المحاذية لمجرى النيل العظيم؛ إنما تبقى أشجار كينا حقيقية؛ وتظلُّ جميلة؛ بل أُبصرُ فيها بعضَ حضورٍ لسيّدات أنيقات. متكبِّرات بعض الشيء، وإنما عطوفات في معظم الأوقات.

ويتجلّى عطفُهن، بصورة خاصة، في مواسم القيظ، وعندما يصبح للظلالِ الوارفة طعمٌ ومعنى.

<<<

 

لكن، لماذا صمتت العصافير هذا المساء؟...

وهل لصمتها صلةٌ بأصداء الآلات الشرهة، وقد ظلّت تُلعلعُ طوال النهار؟ ولم يتسنَّ لي رؤيتها.. واستكشاف ماهيتها.

ذلك ان مثل تلك الآلات، تغزو في أيامنا هذه، أحياء المدينة، تُقلق سكانها ولا تبالي. وبالتالي، ألفوا هم ضجيجها، حتى باتت من بعض حواضر حياتهم.

<<<

 

أما بالنسبة إليّ، فقد كان نهاري مليئاً بالحركة والعمل، ومثل كل يوم، فلن يسمح لي أن أُطلَّ من النافذة وأستشرف الوضع، أو أسأل عن مصدر الضجيج، وغايته.

وقلت لذاتي: تلك أحوالُ المدينة، وهي تخضع لهجوم شرس من الحفّارات، وأدوات الهدم، ودكّ المباني القديمة، وحتى تلك المصنّفة «تراثية» أملاً بإنقاذها من الزوال.

لكن الإجتياح العمراني هو السيّد. ومثل أيّ اجْتياح للقوّة، يسير ويدوس في طريقه، الماضي والحاضر. وحتى اللغة التي يحاولون بواسطتها شرح ما يحدث في ساحات المدينة، تحوّلت، ولم يعد يفهمها من تعوّد الإصغاء الى زقزقة الطيور.

<<<

 

وعندما حلّ المساء، ولم أسمع زقزقة العصافير، وهي تتناغى وتتنادى قبل حلول الظلام، فكّرتُ أن أُطلَّ من النافذة، كي أتفقدّ الأحوال.

وماذا أبصرت؟

بل يا لهول ما أبصرت!...

أشجارُ الكينا، تلك الشامخة بخضرتها، وبهاء أغصانها...

ملجأُ العصافير والأحلام، المتباهية بشموخها وأناقتها، أبصرتُها مطروحة أرضاً؛ وكأني سمعت أنينَها ويقول: الوداع. لم يعد لنا مكان في هذه المدينة، وهي ترضخ اليوم لعمليّة تغيير، ولا أقول تجميل؛ لأنهم يغرسون مكاننا عمارات الحديد والإسمنت.

نودّعكم، وأنتم أهلَنا، ولأن سنوات الجيرة أقامت بيننا علاقة طيّبة، وتتجاوز الوصف بالكلمات.

ونترك لها، تلك الطيور، وهي تتفرّق اليوم، في كل صوب، باحثة عن حضن جديد يضم أعشاشها...

نترك لها أن تخبر من يأتي بعدنا عن تحوّلات المدينة.