تحدث الأشياء حسب قوانينها، أو حسب إرادتنا في حدود استطاعتنا، بعضها في متناول الأيدي، والكثير منها خارج مجال سيطرتنا وتحكُّمنا، وهذه الأخيرة مثار التفاؤل والتشاؤم.
«غدا يوم مشمس»، هذا ما نرجوه، وغدا عيد، ونحن نريد الخروج للنزهة في الحدائق أو في مراكب النيل ابتهاجا بمقدم العيد.
وقد تعوَّدنا ألا نصدق مصلحة الأرصاد بعد مقالب كثيرة، فنحن نحتكم لقلوبنا وحسِّنا الغريزي.
هنا يظهر المتفائل، ويلوح المتشائم بوجهه نصف المظلم، الذي يضيئه نصف أمل، ويعتمه نصف يأس.
المتفائل يتعشَّم ويصدق عشمه أن غدا مشرق، غدا تشرق الشمس ونتنزه في الحديقة احتفالا بالعيد، ونأكل الطعام على مفرش نظيف منبسط على عشب أخضر، غدا يلعب أطفالنا الكرة تحت شمس دافئة حنون، ضوؤها ناعم لا يؤذي العيون، لكنه ناصع، يرى الحكم فيه الكرة جيدا، ويميز القميص من القميص.
غدا البالونة حمراء بشدة، والوردة في قمة ورديتها، أو بيضاء في أتمِّ نصوع، أو صفراء فاقع لونها تسر الناظرين.
وغدا جميل في كل شيء.
أما المتشائم، فهو يهرش رأسه، ويضيق عينيه، ويرفع وجهه للسقف يتأمل سماءه الإسمنتية ويقول: في الأغلب لن تشرق الشمس، ثم إن انقباضة في قلبي تؤكد لي أن غدا غير متراكب، أسود ووحل يغطي طرقات هذا البلد المنكوب.
وتمر الليلة بما لها أو عليها من خير أو شر، ويأتي النهار صباحا مشمسا كأنه احتفال كوني بالعيد، وينظر المتشائم، مقلبا عينيه في السماوات والأرض بين الزرقة والخضرة والشمس الذهبية، يتأمل كل هذا هازًّا رأسه في حكمة عجوز، ويقول بتسامح واعتزاز بالنفس:
ليكن، خاب ظني مرة، ليكن، لن أحتج كي يفرح أطفالكم بالعيد، أما أنا فمصرٌّ على موقفي.
إذن هناك من يستمتعون بتشاؤمهم، بل ويعتزُّون به كأنه هو عين الوقار والحكمة، إنهم يلعبون دورا في مأساة إغريقية تصور صراع الإنسان مع القدر وسقوط الإنسان الحتمي ضحية ذلك الصراع غير المتكافئ، فيضعهم تشاؤمهم في مرتبة أعلى من الإنسان العادي وحياة كل يوم، هكذا يظنون، لذلك فهم فخورون بمزاجهم السوداوي ويعتبرونه وساما على صدورهم.
أما المتفائل ففرحته فرحتان: إنه يتفاءل بالمستقبل فيفرح في الحاضر، فإن أتى المستقبل على هواه فاز بالحسنيين، وفرح مرتين: مرة بالتمني ومرة بتحقق الأمنية، أما إن لم تتحقق أمنيته فحسبه فرحة واحدة، أو كما يقول الشاعر:
مُنى إن لم تكن حقا تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
أما إن كان الأمر في متناول الأيدي إذا اجتهدت، والنفوس إذا سعت، والعقول إذا اشتغلت، فالتفاؤل هنا واجب؛ لأنك إذا يئست مسبقا، ولو نصف يأس، من نيل المراد فقد خسرته مسبقا، أما إذا تفاءلنا بأن مرادنا قابل للتحقق إذا سعينا من أجله، فإن ذلك يمنحنا طاقة للكفاح.
لكن تفاؤلنا يجب أن يكون معتدلا، فالإفراط في التفاؤل بحصول المراد، بحيث نحس بأنه من الآن في يدنا، يقعدنا عن الكفاح والعمل من أجل نواله.
إن الإفراط في التفاؤل كالإفراط في الطعام يجعل أرواحنا بدينة ثقيلة لا تقوى على القيام للسعي وراء الهدف، أما التفاؤل المعتدل فهو كالوجبة المغذية التي تمنح الجسم نشاطا وطاقة على العمل.
فلنتفاءل إذن، ولكن في حدود التوكل لا التواكل، كما نصحنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وإذا كان الإفراط في التفاؤل يورث الكسل، فربما كان التشاؤم هو الآخر نوعا من الكسل، فهو يناسب الأشخاص الذين يستمرئون الجلوس بلا عمل إلا إمطار صحو السماء بكلمات رمادية.