هدى مصر

يتجهُ الفكر صوب مصر، والذاكرة... وتطلع وجوهُ رائدات من سيّدات النهضة، وفي الطليعة يُطلُّ وجهُ هدى شعراوي، أو هدى مصر كما لقّبوها في زمانها.

<<< 

وهي ابنةُ محمد سلطان باشا. وُلدت في 23 حزيران عام 1879، وتوفيتْ في 13 كانون الأول من العام 1947. وكان لها من العمر خمس سنوات عندما توفي الوالد، وكان رئيسَ أول مجلس نيابي في مصر.

<<< 

وتصفُ في مذكراتها علاقتَها بذلك الوالد فتقول: «كنتُ قليلةَ الاتصال بوالدي. إلا أني كنت أذهبُ إلى غرفته كلَّ صباح، لأقبّلَ يده، ومعي أخٌ لي من أم ثانية، واسمه اسماعيل. وكنا نجده متربِّعاً على سجّادة الصلاة يُسبِّحُ، فنقبّل يده ويُقبّلنا، ثم ينهضُ ويفتحُ خزانةَ كتبه، ويُخرج لكلٍ منا قطعة من الشكولاته. وكان يوم وفاته بدء تنبُّهي وشعوري بالحياة».

أما أمُّها، فكانت سيدةً تركية على جانبٍ من الوعي. وقد استدعتْ لها مدرّسين ليُعلّموها في البيت اللغات، العربية والتركية والفرنسية والموسيقى.

<<< 

في هذا الجوّ نشأتِ المرأةُ التي ستقودُ طليعةَ النهضةِ النسائية، لا في مصر وحسب، بل وفي الشرق العربي.

<<< 

وَعَتْ هدى باكراً أن المرأة في مجتمعها مسحوقةُ الإرادة والشخصية، مهضومةُ الحقوق. كما أن الطفولة مهمَلة، وعُرضةٌ للتشرّد لدى الطبقةِ الفقيرة. وبفضلِ حاستِها الإنسانية ووعيها، شعرتْ كم أن المجتمعَ بحاجةٍ إلى يدها تمتدُّ للمساعدةِ والعون. وهي التي جمعتْ في شخصيتها بين المجدِ والذكاء والثروةِ والسخاء. كما اعتبرَها مَنْ كَتَبَ في وصفِ تلك الشخصية أنها كانت «عنوان المرأة التي التقتْ لديها شروطُ اللياقةِ والأهلية والكفاية والمزايا المادية والمعنوية لخدمة وطنها، والعمل على رفع مستوى بنات جنسها».

هذا، إلى جانب جَمالٍ ساحر، وشخصيّة آسرة، تسطو على مَن حولها وتجعلهم ينقادون إليها باللطف والمحبة.

<<< 

لاحظتْ هدى، في مرحلةٍ باكرة من حياتها، تَرَهُّلَ الفتياتِ في مجتمعها، فكانت دعوتها إلى بدءِ نشاطٍ رياضي للفتيات، فأنشأتْ ملعباً مُسوّراً وخاصاً بالفتيات، وكان ذلك في العام 1906. وبعد عام من ذلك التاريخ قامتْ بإنشاء جمعيةٍ لرعاية الأطفال. ثم سعتْ لتخصيصِ قاعةٍ للمحاضراتِ النسائية والاجتماعية، كما ساهمتْ في تأسيسِ «مَبَرَّة محمد علي» للأطفال المرضى.

وعندما نهضتْ مصرُ تطالب بالاستقلال في العام 1919 لم تتخلّف المرأة عن تلك الحركة، ونزلت بحماسةٍ تساندُ الوفدَ المصري. وكانت هدى قد انتُخبتْ رئيسةَ لجنة السيدات.

<<< 

أما أبرزُ ما قامتْ به في تلك الآونة، فهو قيادتُها لتظاهرةٍ نسائيةٍ كبرى، خرجتْ إلى الشارعِ تطالبُ بالاستقلال.

وكانت تلك أول مسيرةٍ نسائية واجهها المجتمع بالذهول، ثم بالتصفيق، حتى أن شعراءَ تلك الحقبة راحوا ينظمون القصائدَ في وصفها، ومنهم شاعرُ النيل، حافظ ابراهيم ومطلعُ قصيدته: «خرجَ الغواني يحتججن/ ورحتُ أرقُبُ جَمْعَهنّ».

<<< 

إلا أن هدى لم تتوقفْ عند حدِّ التظاهر، والمطالبة الكلامية، بل تابعتْ سعيَها بكلِ الجرأة والإقدام.

ولم يكنْ نشاطُها معزولاً عن رفيقاتٍ لها في داخل مصر وخارجها، إذ وسّعتْ دائرةَ نضالها فجعلتْها مشرقية لا عربية وحسب. وهي ظاهرةٌ سجّلتْها الحركة النسائية في حينه.

<<< 

وعلى يد هدى شعراوي تمّ إنشاءُ أول اتحاد نسائي عربي. وكان نشاطُهُ يتوزّعُ بين السياسي الذي يتمثّلُ في مساندةِ الحركةِ الاستقلالية، والاجتماعي، وقد ركّز اهتمامَه على التعليم، وتشجيع الصناعة الوطنية، حتى أنها كانت تُرسلُ، وعلى نفقتِها الخاصّة، حِرفيين إلى إيطاليا وفرنسا وسواهما من البلدان المتقدّمة في الصناعة والفنون. كذلك أَوْلَتْ هذه السيّدة المستشفيات ومؤسساتِ رعايةِ الأطفال اهتماماً خاصاً، من دون أن تهملَ كلَّ ما يتعلّق بالمرأة، خصوصاً تلك القوانين المُجحفة بحقِّها.

<<< 

أما ما يلفتُ في نشاطِ هذه السيدة، فهو وعيُها للحاجات الاجتماعية، ثم العمل على المساعدة. وعندما ورثتْ مبالغَ طائلة عقبَ وفاةِ زوجها، رصدت جزءاً كبيراً منها للمشاريع الإنمائية والتربوية.

<<< 

ويعودُ الفضلُ إلى هدى شعراوي في تنظيم أول مؤتمر نسائي للدفاع عن فلسطين في العام 1938. لكنها أُصيبتْ بصدمةٍ كبرى عندما بلغَها خبرُ التقسيم سنة 1947، تسبّبتْ بنوبةٍ قلبية. غير أانها لم ترضخْ لها بل تابعتْ نضالَها في هذا السبيلِ الجديد.

<<< 

من الصعبِ الإحاطة بحياةِ هذه السيدة ونشاطها في كلمات، وهي التي اختارت البابَ الضيِّق للعبور، وطريق الريادة والنضال، مع أن الحياة وفّرتْ لها كل ما تتمنّاه المرأة من رغد العيش.

<<< 

كتبَ بعضُ رُواةِ سيرتِها أنَّ هدى كانت صلبةَ الإرادة، رقيقةَ المشاعر ومرهفة الذوق. وقد قرنَت السياسي والاجتماعي بالنشاط الأدبي والفني، وحوّلتْ دارها إلى مُنتدى فكري وسياسي. كما اتسعَ حضنُها لا لولديها وحسب، بل لكلِ طفلٍ تخلّتْ عنه أمُّه الحياة، حتى أن المثّالَ الشهير مختار كان يدعوها «إيزيس»، وهي رمز الأمومة والعطاء عند قدامى المصريين. أما الطلاب العرب في فرنسا، فقد أطلقوا عليها لقب «جاندارك العرب» كما سمّاها آخرون «هدى مصر».

وعند وفاتِها، رثاها شاعرُ القطرين خليل مطران بقصيدةٍ مطلعُها: «مُصابُ مصرَ مُصابُ العالمِ العربي/ هل مَدْمَعٌ في ربوعِ الضّادِ لم يُصَبِ؟».