احتار الرسامون فيه، وخمسمائة رجل مجنون تأملوه فجُنُّوا زيادة.
هو رجل أحيانًا، وفي الليل تنمو له ضفائر، وتحنو نظرة عينيه، وتصطبغ شفتاه بلون الأرجوان.
وهو عجوز في منتصف الليل، تجاعيد التعب والإرهاق لآلاف الأيام والليالي، عشرات الآلاف، ترتسم تحت عينيه، شفتاه مزمومتان على تصميم حزين، أن يصمد حتى النهاية.
وهو في الصبح المبكر طفل جميل، وفي الضحى فتى بهي الطلعة، مبتسم للنور، للكون، وهو في الظهر شاب في العنفوان، وفي العصر رجل حنَّكته الأيام والليالي، وفي المغيب أربعيني فاجأته أول شعرة بيضاء.
هذا هو الوجه الذي حيرني، ولكن، ما علاقتي بهذا الرجل المرأة الطفل الشاب؟ الرجل الكهل الشيخ؟ كيف أبصرته؟ وهل أبصرني هو؟ هل رآني كما كنت أراه؟
في الواقع قد ابتسم لي.. مرتين:
مرة في الصبح المبكر ومرة في السحر.
في المرة الأولى كان يحبو نحوي طفلاً، مبتسمًا بدهشة الحياة، ومرح وحبور البراءة، كان يضحك، يكركر في ضحك صاف جميل معدٍ، فوجدت نفسي أبتسم أنا أيضًا، أتبسم في وجهه فرحًا به كأنه ولدي، أو كأنني طفل في عمره، نتقاسم معًا بهجة الحياة الصافية.
ثم وجدت نفسي أضحك، أضحك بصوت عال، لكنه ليس منفرًا، بل يدعو للمرح ويفتح الباب على مصراعيه لعالم كل من فيه يضحكون، يضحكون بلا سخرية، ولا توتر، ولا عصبية، يضحكون بلا هدف إلا أن يعلنوا ابتهاجهم بالحياة ورضاهم عنها.
عالم كل ما فيه يضحك: شمس الصباح تضحك، حبة الفراولة، ماء الغدير، النهر، القبة السماوية، السحب البيضاء، كراسة الرسم، كتاب القراءة، صابونة الحوض، المركب الورق، شارب الأب، غمازات الطفلة، عيون الأمهات.
وغير هذا كثير كثير..
قلت إن الوجه ابتسم لي مرتين: واحدة في الصباح وأخرى في السحر، وقد تحدثنا عن بسمة الصباح، أما بسمة الليل الأخير، فكان للعينين فيها شأن كبير.
< < <
ابتسامة الليل الأخير
بسمة الشفتين كانت خدرة
بسمة العينين كانت سافرة
دعوة مفتوحة للصخب الليلي
حتى الفجر
لكن بقلوب طاهرة
واحدة بسمتها ساخرة
في أختها ابتسامة معتذرة
وكل بسمات العين والشفتين
كلها محيرة
محيرة
< < <
وقد حاول رسام صديق لي أن ينقل تعبير الوجه الليلي إلى الورق أو القماش فما أفلح، بل جُنّ بعد سهر ألف ليلة وليلة يناطح المستحيل، وهام في الصحراء فلم نعرف له وطنًا أو نجد له أثرًا.
وإذا كان هذا فعل وجه واحد من وجوه ذلك اللغز، فما بالكم بكل حالاته وتجلياته الأخرى؟
وهل هذا الوجه يوجد حقًّا؟ يوجد بيننا؟ أم في أحلامنا؟ أم في خيالي أنا؟
وكيف لا يوجد حقًّا ما يوجد في الخيال، والخيال جزء من الحقيقة؛ لأنه جزء من الحياة؟