وجهان

لم تعد تحس بقوة ضرباته، لم تعد تشعر بوقعها، حتى صارت دمية من القش يدفعها فتسقط أرضًا ولا تتحرك، يهزها فتروح وتجيء مع قبضته، يجذب شعرها فتنسل خصلاتها وتتعلق بأصابعه، شفتاها منفرجتان، وعيناها تحملقان في نقطة في السقف، لا يراها غيرها، ليست معه، ولا تحفل بما يفعل بجسدها، اختبأت في مكان ما داخل نفسها، وقبعت في الظلمة تتفرج على ما يجري بصمت.

 «بهيمة...» نفث بحنق ودفعها بكل ما تبقى لديه من قوة..

 «ردي مرة ثانية على الهاتف وسترين ما سأفعله، قبحك الله...» بصق في وجهها، وسوى قميص نومه، وعاد إلى الغرفة.

دفعت المنضدة الخفيضة، وقامت بصعوبة، من حظها أن الزاوية الخشبية الحادة لم تنغرس في جنبها وهي تسقط.

بدأت تحس بجسدها، كل ملليمتر منه يئن، رفعت يدها لتلمس وجهها، وتسمرت أصابعها في الهواء حين شق صمت الشقة رنين الهاتف، للمرة الثانية، أخوها دون شك، أو والدها.

أطل من الغرفة وعيناه تقدحان شررًا، بقيت مسمَّرة مكانها، لا تقوى حتى على التنفس بشكل طبيعي، بدا مسرورًا من نفسه.. مشى متبخترًا نحو الهاتف، ولم تبتعد.. أحاسيس متناقضة شلت حركتها.. لا يخيفها، يجب أن يفهم، جبروته لا يرهبها، ليس من حقه أن يمنعها من الحديث مع أهلها، تريد أن تطمئن على فاطمة.. مضى زمن لم تسمع فيه صوتها.

..«تريدين المزيد؟» توعدها بحنق «أغربي عن وجهي...»

تراجعت بضع خطوات، ثم دلفت إلى المطبخ.

لا يخيفها.. رددت ثانية لنفسها بعناد، جسدها خانها، هذا القفص الهش اللعين الذي يضطرها في كل مرة يرفع فيها يده عليها إلى أن تخدر أوصالها وترتفع بروحها إلى حيثُ لا يمكنه أن ينال منها. حالة اللاوعي التي يدفعها الألم إليها تشعرها أكثر من صفعاته ولكماته وركلاته بضعفها كأنثى وقلة حيلتها.

لكنها لا تخافه.. أصرت وعادت تتلصص عليه..

  «... معقول؟ لا... أختك لم تقل لي شيئًا، ربما شغلها أمر ما.. تعرف النساء... ذهنهن مشتت دائمًا.. الليلة؟ آسف.. لدينا ارتباط.. أفهم.. أفهم.. سأحاول.. يهمني أن أجالس الدكتورة، أود أن أناقش بعض أفكارها.. كم قلت ستبقى؟ ممتاز.. يجب أن أتركك الآن.. الوقت لا يرحم..»..

وضع السماعة والتفت إليها بغتة..

تتلصصين كعادتك؟ تبًا لتربيتك...!» »

لم تجبه.. هربت ثانية إلى المطبخ.

«هذا إذن ما كنت تنتظرين.. شرفت الدكتورة وتريدين أن تشكيني إليها، كان غيرها أشطر، ماذا ربحت من تحريض والدك وإخوتك على دس أنوفهم في شؤوننا؟ مزيدًا من الضرب؟ واصلي اللعب وراء ظهري وستدفعين الثمن.. غبية! لن تري أختك الشمطاء البائرة ولو قلبت الدنيا رأسًا على عقب! ولن تكلميها! وهذا شاربي احلقيه إن حدث العكس».

أدار ظهره وسمعته يتحرك بعصبية في الصالون.. ابتعدت خطواته، ثم ناداها من الغرفة.

جرت بجسدها المنهك، كان أول ما لمحته وهي تجتاز الصالون منضدة الهاتف الفارغة.

حجز الجهاز..

وقف يركب رقمًا على هاتفه المحمول وهو يُغيِّر ثيابه.. أمر دون أن يلتفت إليها: «لمي حاجياتك.. سآخذك إلى الريف، عند عمتي، ستبقين هناك حتى ترينا الهانم أختك عرض كتفيها».

هذه إذن خطته.. دارت الدنيا من حولها.. انفرجت أساريره وهو يتحدث في هاتفه.

«آلو.. أستاذ نوري؟ عفوًا للإزعاج، ولكنني فكرت في أمر.. أخت زوجتي سيدة مهتمة بحقوق المرأة والطفل، شخصية من العيار الثقيل، أستاذة جامعية في أميركا، وصاحبة كتب ونظريات بخصوص المرأة العربية، بإمكاني عمل لقاء صحفي معها نضيفه لملف المجلة القادم عن العنف الأسري، نعم.. أؤكد لك، اسمها معروف جدًّا هناك، عملت الكثير من المقابلات التليفزيونية، وكتبت في كبريات الصحف.. نعم، نعم، نماذج مثلها تشرف المرأة العربية.. حاضر.. شكرًا أستاذ...»

دس هاتفه في جيبه والتف إليها.. «انتهيت؟ هيا.. غيري ثيابك.. ووضبي وجهك، لديك أصباغك.. أخفي آثار الكدمات، و... اسمعي، عمتي لن تطرح أسئلة، لن تحشر نفسها فيما لا يعنيها، ليست مثل أهلك، لكنني أحذرك.. كلمة واحدة عما حصل وأكتم أنفاسك بيديَّ هاتين...»

ارتجفت وهي تنصاع لأمره، لن يتردد في إزهاق روحها.

 لا تخافه؟

هل تضحك على نفسها؟

رفضت أن تفكر في الأمر.. بلعت دموعها وتبعته.