وحدك

 

كعبُك في الماء والزَّبد، الموج منسحبٌ منكِ إليكِ والكون لا أحد، وحدك في الشاطئ الذي يمتد للأبد، ذيل ثوبك مبتل، ممن تخجلين؟ من البحر؟ من الرمل تستحين؟ ألم تعرفي بعد يا مسكينة؟ ما في هذا الكون العريض السحيق سواك؟

<<<

 

كيف حدث هذا؟ لست أدري، إني أرى من خارج الكون، من نقطة عالية تكشف امتداد الرمل بلا انتهاء، والبحر بلا نهاية، وأنت نقطة ضئيلة في المشهد العظيم.. لكني أراها جيدًا.

<<<

 

بل أعرفك بالاسم.. اسمك سوسن، أليس كذلك؟ أعرفك منذ كنت في المدرسة الابتدائية، وأعرف عشقك للبحر والعوم.

أراك لا تنزلين البحر الآن.. تُرى.. أتخافين؟ لك حق، أية وحشة أن تدخلي رحاب البحر وحيدة عزلاء، سينفرد بك، وهو أحيانًا ماكر غدار، وإذا شعرت بأنك على وشك الغرق عبثًا تنادين.. لن يسمعك مخلوق، إلا أن يرحمك الله، فهو الوحيد الذي يسمعك.

<<<

 

قلت أعرفك، وأعرف نزواتك، مرة اشتريت بألف جنيه بالونات من كل لون، وجمعت أطفال العالم لينفخوها معًا.. فصعدتْ في السماء، فبكيت أنت لفراقها.. بينما كان الأطفال فرحين يصفقون ويهللون.

نزوة أخرى أسرّ لي بها زوجك قبل أن  يختفي من الوجود، إلا أنت: استدعيتِ البواب إلى شقتك الكائنة في الدور الحادي والعشرين، وطلبت منه أن يلقي بالتلفاز من النافذة.. خاف البواب وخرج، وبقيت أنت مع التلفاز وجهًا لوجه، كان يذيع على الهواء مباراة –أو عدة مباريات- للمصارعة الحرة، وكانت أقرب للجزارة من الرياضة، حولتِ القناة فطلعت إسرائيل الحرة، وهي تحول الأطفال والنساء إلى أنواع مختلفة من الشواء، ثم حولت القناة مرة أخرى فرأيتِ اثنين يتكلمان بلا انقطاع، فلا يسمع أحدهما الآخر ولا تسمعين أيهما، والمذيع سعيد بهذا الإنجاز، ثم حولتِ القناة مرة رابعة فخامسة فسادسة، فرأيت أفلامًا، الحوار فيها بالمسدسات والسيناريو مطاردات، وأفلامًا أخرى تريد أن تضحكك فلا تضحكين، وثالثة تريد أن تبكيك فتضحكين.

وعبثًا تنتقلين من قناة لقناة، تجدين مسرحيات كوميدية تسخر من الأقزام والبدينات والعميان، ويصفع البطل الكومبارس بلا سبب..

تغلقين التلفاز، وتحاولين رفعه للإلقاء به من النافذة فلا تستطيعين.. تركعين على الأرض وتسجدين، داعية أن يختفي التلفاز بقدرة قادر ويغور من وجهك..

وليتك ما دعوت!

<<<

 

اختفى كل شيء، لا تلفازك فقط، بل كل التليفزيونات، وكل ما يشاهده الناس فيها.

اختفت المرئيات.. لم يعد سوى أنت والماء والرمل والسماء.. ولسبب ما بقيت أنا.. عقلاً خالصًا يشاهد من نقطة ما في الفراغ: الوجود الوحيد الذي تبقى.. أنت..

<<<

 

أنا الوحيد الذي يستطيع أن يغلق هذا التلفاز.. عقلي شاشتك.. إن توقفت أنا عن التفكير فيك انتهيت أنت.

ربما العكس، ربما إن أغلقت أنا تلفازي فمحوت مشهدك العجيب الجميل، ربما ساعتها يعود الكون كما كان، وتتحررين من أسر هذا المشهد الذي هو في الحقيقة من صنع خيالي.

صورة جاءتني وأنا أمسك بالقلم، فاستحيت أن أقول لها: لا.. لا تدخلي.. قلت لها تفضلي، وها أنا أضع القلم لتفهم بصنعة لطافة أن عليها أن تمضي.

<<<

 

لكني ألتقط القلم ثانية وأكتب: إن كان عليك أن تذهبي فلنمضِ معًا، «بعيدًا عن الزحام المجنون» -كما يقول توماس هاردي- في حضرة البحر الجميلة المخوفة حين يخلو الكون إلا منه ومنا: أنت عاشقة على أعتابه، تحبينه وتخافينه، وأنا معلق في نقطة في الفراغ.. أتأملك بلا انتهاء.