تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الإنسان الوغد وأشكاله وأنواعه، ولكي يصير الواحد منَّا وغدًا لابد له من بريء.
وفي العلاقة بين الاثنين، غالبًا ما تكون الوغدانية نعمة، والبراءة نقمة، إلى أن تتدخل رعاية الواحد الأحد وتحمي من اعتصم بحبله.
لكن إذا لم تشأ عدالة السماء أن تتدخّل فورًا، ورأت أن تُرجئ حكمها لحكمة، فإن وجود البريء على الأرض ورطة.
فالبريء لا يملك الحذر اللازم فيحكي أسراره للناس، وهنا يتلقفه الوغد، فيستخدم أسرار البريء ضده، لتخدم مصلحته هو.
وقد يقع الإنسان بسيط العقل نقي القلب، في ورطة أكبر، ويرتكب ذنبًا أشد، أفظع ما فيه أنه ارتُكب بحسن نية ودون قصد للإساءة، ذلك حين يتحدث البريء عن أسرار الناس، وهو لا يدرك أن ما يقوله يمكن أن يؤدي إلى نتائج وخيمة؛ لأن هناك أوغادًا لا يرون إلا الجانب الخبيث المريب من كل شيء، ومن كل إنسان، إنهم يرون في الناس صورة أنفسهم، وكثيرًا ما يكونون على حق.
ثم إنهم -وقد امتلكوا تلك الأسرار المخجلة أو الخطيرة- يحاولون ابتزاز أصحابها وينجحون في ذلك كثيرًا ويربحون أكثر.
للأسف، هناك من الأطفال من يكبرون أطفالاً ويشيخون، وهم مازالوا حَسَني النية، سليمي الطوية، أبرياء العقل بسطاء القلوب، ومشكلتهم أنهم قد يجدون في البداية حماية من أب، أو أم، أو مربية، لكنهم بعد ذلك، يُتركون لرعاية أنفسهم بأنفسهم، فإذا لم يتزوجوا إنسانًا أو إنسانة بها ما يكفي من الأمومة والحكمة، لكانت حكايتهم حكاية، وليلة سوداء، وحالهم حالاً لا تسر عدوًا أو صديقًا، إلا من كان وغدًا بالنشأة والفطرة، أفكاره وغدة، ملامحه وغدة، جيناته وغدة، فالأمر متوارث في بعض الأحيان. وهناك وغد من هواء يزورني أحيانًا، ويهمس لي بكلام يظنه ظريفًا، وهو يعتقد الآن أنني معجب به، مفتون بذكائه، وأنني أكتب عنه المقالة تلو الأخرى، من فرط انبهاري وانسحاق شخصيتي أمام جبروته.
فاعلم إذن أيها العجوز المتصابي مصبوغ الشعر والشارب، وردي السترة، بنفسجي السروال، يا من يتدلى المنديل البنفسجي من كم قميصه، وتتدلى يداه الرخوتان كمنديله، اسمع يا عزيزي يا مزيف الكلام، يا مزوّر الابتسام، يا من تصك المعاني بمطبعة مسروقة، وتُلبِس الحق المحتشم ثوب الكذب المتصابي المخنث، اعلم أيها المعجب بدهائك أن من بين بسطاء الناس من تستطيع قلوبهم أن تقرأ كفك، وتعرِّي وجهك، إنهم يشعرون وكفى، يرون المظلم من النفوس وانعكاس ذلك الظلام على وجوههم، وعيونهم بالذات، قد يكون هؤلاء الشفافون بسطاء العقول، لكنهم أذكياء القلوب.
فلا تطمئن أيها السيد الوغد لنفسك وقواك، ليس البريء دائما من ينخدع بسهولة، واحذر ذوي الأرواح الشفافة، فهم ينفذون إلى قلبك في التو، فإذا بوجودك نقمة، وإذا بالورطة ورطتك أنت؛ لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا بد للجمال، جمال الروح والنفس، أن يكون نعمة حتى إذا تعرّض صاحبه لبعض المشكلات من فرط براءته.
ويكفي أن البريء صافي النفس هو من يحظى دائمًا بحب الناس، أما أنت أيها الزائر الهوائي غير المرحّب به، فيكرهك الناس، وإن انخدع بعضهم بك في البداية، فإذا نقمة البريء نعمة، وهل هناك نعمة أجمل من الحب؟ وإذا بنقمتك دائرة من الكره تحيط بك، ويكفي أنك تخشى أن ترفع وجهك متأملاً زرقة سماء الله؛ لأنك تعلم، واعيًا أم غير واعٍ، أن وراء تلك الزرقة الهادئة نارًا تتربّص بك.
فافرح قليلا بضحاياك، وانتظر لعلك تكون في الغد أنت أنت الفريسة.. ضحية عيد البراءة.