"تأخرت" وبّختني أمي، وصبّت لي فنجان قهوة، شعرت بالكاد بالدهشة، منذ أيام ونحن نتشاحن على مائدة الفطور، تريدني أن أستمر في شرب الحليب، ولا أطيق ذلك، لم أعد طفلة، ارتميت على أبعد كرسي عنها، ودفنت رأسي بين ذراعيّ، وأسبلت جفني، صباح كئيب آخر، منذ أسابيع وهي تُمطر دون توقف، ما هذه البلاد؟
«اشربي قهوتك»، قالت بصعوبة: «أمامك ثلاثون دقيقة فقط»، هززت كتفي بلامبالاة، لستُ مستعدة لمجادلتها!
«لا تقولي لي إنك لن تذهبي اليوم أيضا إلى الكلية! امتحاناتك على الأبواب، هل نسيت؟».
جررت قدمي إلى غرفتي، تعالى صوت كعب حذائها الحاد في الممر، وعم الشقة هدوء حذر، وتنفست الصعداء.
أمي لا تفهم شيئًا، ويحسن بها أن تبقى كذلك، لأنني أيضًا لم أعد أدرك ما يحدث لي!
وقفت أمام المرآة، أتأمل عينيّ المنتفختين، وشعري التعب، شقت الصمت رنة محمولي، ومددت يدي إليه دون حماس،
«صباح الخير، آسف لاتصالي في هذا الوقت المبكر، ولكنني أحتاج لمناقشة بعض نقاط الفصل الأول معك»، لم أصدق أذنيّ، اتصل! الأستاذ المشرف على أطروحتي، الرجل الذي لم أعد أستطيع التفكير في غيره،تذكرني!
هرعت إلى الحمام، ومنه إلى مرآة الزينة.
أخفيت قدر ما استطعت آثار التعب على وجهي، بودرة خدود وأحمر شفاه وكحل وظلال خفيفة للأجفان، وعطر، يجب ألا أبالغ، سرحت شعري، وارتديت أجمل فستان أملكه، وملأت قلبي بالأحلام، زررت معطفي، ورميت في حقيبتي بعض الأغراض، وجريت إلى الباب.
نظرت بامتعاض للسماء، رذاذ خفيف لكنه كاف لإرباك زينتي، لا وقت لدي لإحضار مظلة، فككتُ منديل الحرير الذي أطوِّق به رقبتي، ورميته على رأسي، وجريتُ نحو موقف الباص، لم أكن أنوي ركوبه، رغبت فقط في الاحتماء بملجئه المظلل، بانتظار مرور سيارة أجرة، دسستُ نفسي بين الناس وأنا ألهث، ونظرتُ إلى الساعة، اثنا عشرة دقيقة، يا إلهي، هل سينتظرني؟
ارتفع صفير فرامل الباص الذي اقترب، وهبّت جموع المنتظرين إليه، دعستني الأقدام، وانغرست الأذرع والحقائب ورؤوس المظلات في جنبي، لم أجرؤ على تخيل منظري بعد انفضاض البشر من حولي، هل سألقاه بهذه الحالة؟ تملكني غيظ شديد، وحاولت ترتيب شعري وهندامي.
عشر دقائق، ولا أثر لسيارات الأجرة اللعينة، وهذا المطر الذي لا يريد أن يتوقف!
كان يتابع حركاتي باهتمام، متشرد يفترش قطع كرتون في زاوية الملجأ، ابتعدت عنه.
«لو أسرعت لوجدت مكانا لك في الباص» قال، حدجته بصمت، وأشحت بوجهي، كيف يمكن للمرء أن يعيش وسط هذه القذارات؟ تثاءب بصوت عالٍ، ولم أستطع منع نفسي من اختلاس النظر إليه، برزت أسنانه الصفراء المتساقطة بشكل مقزز، وانبعثت رائحة عفنة من فمه المشقق، رفع اللحاف المتسخ الذي يلتف به، وحك باستمتاع فروة رأسه المثقلة بحزمة شعر، تحمل أطنانًا من القذارات والأغبرة، تقلّبت أمعائي، وأبعدت نظري عن الأظافر السوداء الطويلة التي انهمك في تنظيفها، ودسست يدي في حقيبتي بحثًا عن منديل معطر.
لمحت سيارة أجرة خالية تقترب، وهببت تحت المطر ألوح لها بهستيريا،»يا فتاة، يا فتاة» صاح المتشرد خلفي، ولم أكترث له،
توقفت السيارة، وواصل المتشرد صياحه: «ألا تسمعين؟ أنت يا بنت!».
التفتُّ بنفاد صبر وأنا أفتح باب السيارة، أشار إلى حيثُ كنتُ أقف، وصاح: «انظري، أسقطت حافظة نقودك، إنها هناك».
صعقت وأنا أرى مربع الجلد الصغير الذي أضع فيه أوراقي ونقودي مرميًا أرضًا، رجعت لألتقطه، وزمر سائق التاكسي بنفاد صبر، عليه أن يخلي المكان للباص القادم، ركبتُ بسرعة، ونظرت للمتشرد الذي عاد يحك رأسه، لوَّح لي بيده العفنة، ولم أشعر بالتقزز، بدا لي -ساعتها- أنظف من كثير ممن أعرفهم.