زياد وغسان... لم يكن نتاج الكبيرين كبيراً

عندما يجري غسان بن جدو مقابلات تلفزيونية، ننتظره بشوق ونترقبه بشغف، فهو إعلامي يعرف كيف ينتزع المواقف اللافتة الواضحة من ضيفه ليسجل من خلالها خبراً عاجلاً تتلقفه الوسائل الإعلامية المتنوعة كحقيقة واقعة لا شك فيها ولا ريب. إنه الإعلامي الأكاديمي الملتزم إلى حد التطرف، المنتظم إلى حد الهوس، الجدي إلى حد الملل، الصادق إلى حد القداسة...
فكيف يكون الحال إذا ما كان ضيف بن جدو علامة فارقة في تاريخنا المعاصر هو زياد الرحباني؟
فنان لا يمكن اختزال شخصيته بعنوان واحد، فهو الممثل العفوي، والمخرج الخيالي المحلّق في كل الفضاءات، الواقعي الذي يدخل كل بيت وحارة ونفس ومكوّن من مكوّنات هذا البلد، الموسيقي الثائر، والكاتب الساخر بقسوة، الواضح السهل، والغامض العميق، إنه رجل يجمع الكثير من الأضداد لكن السِّمة التي تميّز وجوده في هذا الازدحام الفني والسياسي هي الابداع...
إن اجتماع الرجلين العلمين في حلقة واحدة كان مشهداً غير مألوف شكلاً أو مضموناً، وكان من الأفضل عدم اجتماعهما لأسباب تتعلق بالميزات التي يتمتع بها كل منهما، والتي تجعل من الصعب أن يكون نتاج الكبيرين كبيراً.
ومن تابع الحلقة شهد بعضاً من عوامل الفشل (أو عدم النجاح) التي تؤكد صحة ما نقول.
في البدء كانت المقدِّمة الزاخرة بالجمل المهيبة، والكلمات العريضة، والتحليلات الفلسفية، وملامح قائلها الجدية، وصوته الذي يسير على طبقة واحدة كيلا يفقد الأفكار تسلسلها المنطقي، وكأني به يقدم علَّامة في الفكر أو الدين أو الفلسفة عاش عقوداً طويلة فارساً في ميدان علمه الرحيب. وقد لمحنا بسمة زياد من خلف ملامحه يستغرب الجو المهيب الذي لم يعتده من قبل.
كذلك فقد قاطع بن جدو زياد عدة مرات من أجل الحفاظ على هيكلية برنامجه المؤلف من أسئلة كثيرة متشعبة، ليقاطع زياد بدوره أسئلة صاحبه لحاجته إلى إكمال إجابته التي رأى أنها لم تكتمل. وكلنا يعلم أن مشكلة زياد (وربما روعته)هي أنه يستطرد في كلامه، وينوع في فصوله، ويضرب أمثلة تكاد تعقد الكلام الذي أراد منه إيضاحاً، ليشعر بعد كل ذلك أنه لم يوفِ الكلام حقه، ولم يبرز الهدف الذي سعى له. وقد غاب عن بال بن جدو أن الناس يريدون أن ينطلق زياد في حديثه ولو دون ضوابط أو حدود أو التزام بحجم السؤال أو البرنامج أو الوقت، ولن يهمهم الأوراق الكثيرة التي تحمل أسئلة متعددة... ولن يهمهم أن تسير الحلقة ضمن إطار منظم متسلسل ممنهج... ولن يهمهم ضياع الوقت في أحاديث جانبية... ولا إخال الإعلامي الأكاديمي المهني يرضى بالخروج عن أصول المهنة وأن تتحرك الفوضى في عبثية ضيفه وارتجاله وثورته التي تجتاح كل الخطوط الحمر...
وأكثر ما يثير الاستغراب في هذه الحلقة هو استخدام المضيف اللغة العربية الفصحى في خطابه مع ضيفه حتى ولو كان اللقاء جرى في استوديو قناة الميادين، فإن على من يستضيف زياد أن يخرج على الأعراف والتقاليد والحدود والالتزام والقواعد (بما لا يخدش هيبة المحطة طبعاً)، لأن في هذه الاستضافة خروجاً عن مألوف المقابلات، فنية كانت أو سياسية أو اجتماعية وما شابه، فإن عنوان الحدث وبكل بساطة هو زياد الرحباني.
لقد اعتدنا في غسان جدو علماً رائداً في حقل الإعلام والسياسة، وهو المحاور-قبل أن يكون المقدِّم-لمن يستضيف من السياسيين، حيث بإمكانه أن يسبر غور مضيفه ويخطف منه الأضواء والمواقف الصارخة ويلزمه بها، فهو إعلامي لا شك كبير، لكنه في مواجهته زياد، كان أشبه بمواجهة ضده، وقد يقال إن الضد يظهر حسنه الضد، لكن ذلك ليس دائماً، ومن مصاديق ما نقول الحلقة التي جمعت بين الرجلين.
وأخيراً، لم تكن الحلقة كما ترقبها الناس، ولم تنجح كما كان المبتغى، فهل يكمن السبب في جدية أحد الكبيرين وحرصه على المحافظة على ثوابت عمله التي يعتبرها مقدسة، أم أن السبب عبثية الآخر وعفويته وسخريته السوداء؟
وأخيراً نرجو أن يحقق الجزء الثاني من الحلقة ما لم يحققه الأول لنعيد النظر بما اعتقدنا، ونمحو أخطاء ما كتبنا، ونمزّق بعدها هذي السطور.