كاد أن يكون لنا العرب مسرح غنائي، وكدنا أن ننعم بدور أوبرا ومسارح لهذا الفن، لو أطال الله في عمر (الخديوي اسماعيل) حوالي 200 عام بعد أن فتح مصر على الفنون والثقافة الأوروبية في العام 1869...حيث قدّمت أوبرا عايدة آنذاك للموسيقي الإيطالي فيردي بمناسبة افتتاح قناة السويس، وهي مغناة لها علاقة بتاريخ مصر، إنما برؤية غربية كانت حديثة في حينها، وما زالت تعرض حتى اليوم بشكلها القديم المتجدّد. فبرغم صعود الموسيقى العربية، تبقى الحقيقة أن موسيقانا أو بالأحرى موسيقيينا تجمّدوا في مكان ما ولم تعد لديهم القدرة على مجاراة العصر، أو النهوض لمواجهة العالم المحيط بنا. بعد الخديوي اسماعيل، انتفض جمع من الفنانين الكبار واقتنصوا من هذا الفن وتمرّسوا به وعلى رأسهم سلامة حجازي وكامل الخلعي وداوود حسني الذي ما زالت أغانيه تردّد حتى يومنا هذا. وبرغم هذا الإبداع، علقت الموسيقى آنذاك بقالب التطريب حتى جاء المخلّص الحقيقي والنهضوي سيد درويش. فنقل الموسيقى من حالها الطربي إلى الحالة التعبيرية، لتصبح تعبيراً عن حالة يمرّ بها الإنسان بمكنوناته ومقدّراته، فللحاكم طريقة في لفظ الجملة الشعرية وللخادم طريقة والتاجر والسائق إلخ..
استمرّت هذه الحالة بعض الوقت، لكن سرعان ما تدحرجت وضاعت وسط تداخل الحالة السياسية والاقتصادية وبروز فنون مختلفة لا تقلّ أهمية، إلا أنها لم تعد في المقدّمة، فبرز الفرد على حساب المجموعة، وهذا ما جسّدته أم كلثوم مختصرة الشاعر والملحن والعازف وكل من له صلة بالإنتاج... وتكرّر الوضع مع باقي الأسماء التي مسرحت الأغنية وجعلت أهدافها مقتصرة على الشأن العاطفي وأحياناً ضمن الإطار العسكري الذي لا نستطيع أن نسمّيه ثورياً بل هو أكثر ميلاً للأناشيد العسكرية، وهذا انعكاس طبيعي لظهور حركة الضباط الأحرار في مصر وحلول حالة (ثورية) انعكست في عسكرة الأغنية.
لعلّ الحالة الرحبانية أعادت لهذا الفن الثقة التي اندثرت بفعل التغيّرات الكبرى التي طرأت على المجتمع المصري، لتتضافر مجموعة من المعطيات وأهمها نكسة فلسطين التي أفرزت مجموعة من الأفكار الجديدة والرؤى مبعدة الجمهور عن الرومانسية لفترة بحث فيها الجمهور عن لغة وتعابير مختلفة... فجاء المسرح الغنائي الرحباني ليملأ هذا الفراغ معتمداً على صوت فيروز وصوت نصري شمس الدين وأصوات مجموعة من المطربين ارتقت معها التجربة ونهضت مكوّنة حالة أوبرالية تجسّدت في العديد من الأعمال الرحبانية منها "فخر الدين" و"لولو" و"بياع الخواتم" وغيرها... فاين هو المسرح الغنائي اليوم؟
لعلهم أبناء منصور الرحباني وحدهم يرفعون راية هذا الفن في زحمة الغناء "الغذائي". ففي كل عام تقريباً يقدّمون عملاً مسرحياً غنائياً يتناولون فيه قضايا تاريخية مرتبطة بواقعنا، وهي قراءة موروثة عن الأخوين الرحبانين اللذين استطاعا إسقاط فنهما من خلال قراءتهما التاريخية على الواقع المعاصر.
وفي المقابل، تأتي أشكال تفتّق بها تجار الموسيقى في العالم العربي لتحلّ مكان المسرح بمفاهيمه المتعدّدة... حفلات راقصة يتخلّلها الكثير من الحمّص والتبولة والمشاوي على أنواعها. ويستمر هذا الطقس ليخرج المتفرّج من هذه الحالة متخماً غذائياً تفوح منه رائحة (الثوم) والزفرة والكحول التي تسهّل عملية هضم ما استمع إليه في أمسية يسقط اسمها والهدف منها في مطلع اليوم التالي. فهل هناك فرصة لعودة المسرح الغنائي العربي؟
لا.. بالتأكيد لا، وهذا لا يحتاج إلى تفسير... فطالما الجمهور راض بربع مطرب ونصف موسيقي وثلث شاعر وصورة إلى جانب النجم "الكبير" أو النجمة "الفذّة" الحاصلة على جائزة "التفاهة" المحلية، فلا داعي للمسرح الغنائي ولا ضرورة لعايدة ولا جدوى من قيس وليلى.
ليس كل ما يلمع... فناً
يعتاد الإنسان محيطه ليفقد مع الوقت القدرة على الملاحظة، خاصة في حالة الجمود وعدم التغيير... وفي حال طرأ تغيير بطيء على الطريقة العربية يعتاد المرء على البطيء ولا ينتبه للتغيير، كما يعتاد الرائحة والنظرة والانحراف عن (الحفرة) دون العمل على إصلاحها.
التكرار اكتشاف جيد يساعد على الفهم والتفهّم وهذا ما يجعل المشاهد العربي يقبل بما يكرّرونه عليه، لدرجة الشك بذوقه وبقدرته على التمييز بين الجيد والغث... فعندما أستمع لمطربة ينساب النشاز من فمها كالشلال ويصفّق لها الجمهور ويتكرر حضورها يومياً على معظم وسائل النشر المتاحة من إذاعة وتلفزيون وملصقات في الشوارع، يراودني الشك بأن أذنيّ باتتا في حالة تستدعي القلق... أزور الطبيب فيؤكد لي سلامة عقلي وأذنيّ، أعود لأجد المطربة عينها تحاضر في الفن والموسيقى والمسرح والمشاريع المستقبلية!
أحاول أن أبحث عن التفاصيل التي أقنعت المطربة باعتناق هذا المجال فأجد المؤهّلات وأهمها "اللمعة"... فكل شيء يلمع... الفستان يلمع والسيقان تلمع، والأكتاف والأرداف والخدود والزنود وكل ما أُتيح للعرض يلمع، إلا أن الصوت وحده هو الذي لا يلمع....
طبيعة عملي تحملني إلى بلاد يصطفّ فيها الناس أمام مواقع العروض الفنية في ظلّ درجات حرارة متدنّية تصل إلى الصفر، بهدف الحصول على بطاقة لحضور مسرحية أو عرض موسيقي أو غنائي أو عرض راقص وأشياء من هذا القبيل... فأجد نفسي بينهم أبحث عن عرض مناسب لأكتشف أن الفن هناك شيء آخر... المعادلة بسيطة وهي أن ما يقدّمه المسرحيون لا يمكن لي أو لكثيرين أعرفهم، أن يأتوا بما أشاهده الآن، وهنا الأساس للتميّز... كيف لي أن أتابع مطرباً أو مطربة وأي واحد منا يغني أفضل منها أو منه، بينما وأنا هنا مذهول من عمق الموهبة التي أهّلت هؤلاء الفنانين للصعود إلى المسرح، لفعل الفن بكل مكوّناته بما فيه الطيران في أرجائه متسلّقين الحبال ومنتقلين من مكان إلى آخر... فإذا تطلّب العرض عزفاً، أجد نفسي أمام حالة موسيقية فذّة، وإذا تطلّب رقصاً نجد الحوار الجسدي خارج المعقول والمتعارف عليه ليكون الجسد أداة طائعة لا تعرف الصعاب. وفي حال فتحت الأفواه للغناء، تواجهك مسألة علمية معقّدة تدرّب عليها هؤلاء المغنون سنين عديدة ليصبحوا أهلاً للوقوف أمام جمهور حضر من منزله تاركاً كل وسائله المريحة... باحثاً عن رحلة فنية خالصة لا مكان فيها للأشياء "اللمّاعة".