لقد استسهَل النَّاس العِلْم، حتَّى أصبح الأُدباء يَعملون في المُحاماة، ودَارسو الشِّعر مِن أصحاب النَّظريات والتَّنظيرات..!
هذا التَّساهُل والاستهتَار بالعِلْم حفَّزني لأكون مُنظِّراً، وأُحدِّث نَفسي بأن أخترع كُلّ شَهر نَظريّة، طَالما أنَّ الأمور فَوضى، وكُلّ عَنز تَسرح في المَرعى..! حَسناً.. سأُسجِّل نَظريتي لهذا الشَّهر، وقبل أن أتحدَّث عنها، سأُؤكِّد القَول إنَّني سَألتُ الرَّاسخين في عِلْم النَّظرية عن كيفيّة صناعتها، فقَالوا: مَا عَليك إلَّا أن تَأتي بفِكرة لَم يَسبقك إليها أحد مِن العَالمين، وتَأتي بما يُؤيّدها مِن الأدلّة، عَلى ألا تَقل الأدلّة عن ثَلاثة، حتَّى تُؤكِّد مَتانتها وجَدارتها في الثَّبات، لتَرسَخ في بَلاط عَالَم النَّظريّة..!
تَقول النَّظريّة العَرفجيّة: إنَّ الشُّعراء الشَّعبيين - أو كَما أُسمِّيهم أصحاب الشّعر المحكي - يهجمون على الشّعر الفصيح، ويَقتاتون مِن صوره وتَصويراته ومَعانيه، ويَقومون بتَشعيبها وصياغتها بلهجة عاميّة، الأمر الذي يَجعل المُتلقِّين يَشعرون بأنَّها مِن إبداع أهل الشّعر العَامِّي، وما دَروا أنَّها مولود مستنسخ مِن الشِّعر العَربي الفَصيح، وإليكم الأمثلة:
يَقول الشَّاعر أبو تمام:
اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الحَسُودِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُه
كالنَّارُ تَأْكُلُ نَفْسَهَا إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأكُلُه
هناك شَاعر شَعبي استفاد من البيت الأخير وغنَّاه فنَّان شَعبي آخر، قَائلاً:
وَالنَّارِ تَأكِلْ نَفْسَهَا إِنْ مَا لِقَتْ مَا تَاكلَه
في مثال آخر، يقول الشَّاعر مجنون ليلى:
كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَزُمُّهَا.. تُعَانِي حِيَاضَ المَوْتِ وَالطِّفْلُ يَلْعَبُ .!
هذا البيت - كما يَروي لي «الصَّديق الرّاوية» ربيب ينبع الصديق «أبو أدهم أحمد المغربي» - أخذه الشَّاعر المعروف صَاحب الكَسرات «ذيبان الفايدي»، حين قَال:
يَا نَاسْ كَيْف الِّذِي قَلْبَهْ .. عُصْفُورٍ مَع طِفْلٍ يلْعَبْ فِيهْ.
الطِّفْلْ فَرْحَانْ يلْعَبْ بُّهْ .. وَالطَّيْرْ خَايف مِنه يشْوِيهْ ..!
وفي مثال ثالث يَقول نزار قباني عن الحُب
:أُحِبُّك لاَ تَفْسِيرَ عِنْدِي لِصَبْوَتِي.. أُفَسِّرُ مَاذَا وَالهَوَى لاَ يُفَسَّرُ. ..!
هذا المَعنى صَاغه الشَّاعر «دايم السيف» بطريقة مختلفة، حين قال:
وَالحبّ مَا لُهْ يَا هَلَ الحبّ تَفْسِيرْ.. قَلْبَيْن وَالله بِالمَحَبَّة أمرها ..!
وفي مثال رابع يَقول الشَّاعر العراقي «أحمد الصافي النجفي»:
أُحِبّكَ لَكِنْ لاَ أَرَاكَ تُحِبُّنِي .. فَكَيْفَ ادَّعُوا أَنَّ القُلُوبَ شَوَاهِدُ ..!
هذا المعنى استخدمه الشَّاعر «دايم السيف» بشكلٍ آخر، على اعتبار أنَّ جُملة «القلوب شواهد» مُتداولة كمَثل مَشهور بين النَّاس، ليقول في ذلك:
مَا هُو صِحِيحْ القَلْبْ لِلْقَلْبِ شَاهِدْ لَوْ هُو صِحِيحْ أَصْبَحْتِ مَفْتُونِ فِينِي
في النهاية أقول
:إنَّ هذه النَّظريّة العرفجيّة مَازالت في طور الأخذ والرَّد، والقَبول والصَّد، ولعلَّ في شَرائح القُرَّاء مَن يُؤيد أو يُشاكس، أو يَقبل أو يُنافح، لا سيّما أنَّ المَعرفة حَق مشاع للجميع، والمَعاني كما يَقول صديقنا الفخم «الجاحظ» مُلقاة عَلى قَارعة الطَّريق، مَن أخذها فهو أحقُّ بها، ومَن أماطها عَن الطَّريق فقَد فَاز فَوزاً عَظيماً..!
وانتظروا جَديدنا في عَالَم النَّظريّات، بعنوان: لمَاذا تَطوّر الشِّعر الشَّعبي أو المحكي أو العَامِّي في منطقة الخليج العَربي، ولماذا تَقهقَر شَقيقه الأكبر الشِّعر العَربي الفَصيح..؟!
أحمد عبد الرحمن العرفج