نسمع دائماً عن تقنين القضاء، ونسمع أيضاً عن تقنين الغياب في المدارس، ونسمع كذلك عن تقنين الابتعاث، وأنا اليوم بصدد ابتكار مصطلح جديد اسمه تقنين الشكوى، وحتى تتضح الأمور دعونا نعرف مصطلح تقنين الشكوى :
إنه مصطلح يحاول أن يضع الشكوى في إطارها الحقيقي، وقبل وصفها يجب أن توزن الشكوى بميزان الحكمة، بمعنى هل الشكوى التي يتحدث بها الشاكي أو الشاكية تستحق التشكي؟
وهل تنطبق عليه مواصفات الشكوى، خاصةً وأن ظاهرة الشكوى ظاهرة إنسانية، وفي ذلك يقول الشاعر:
وَلا بُدَّ مِن شَكوى إِلى ذي مُروءَةٍ يُواسيكَ أَو يُسليكَ أَو يَتَوَجَّعُ
الآن دعوني أستعرض معكم هذه الصور:
اتصلت بي إحداهن تشتكي وتقول: "يا أحمد؛ ظروفي لا يعلم بها إلا الله"، وبعدها بيومين أرسل لي رجل يشتكي ويقول: "لقد مررت بظروف لم يمر بها أحد قبل".
وهكذا؛ أستقبل يومياً، وأظنكم تستقبلون مثلي، عشرات الشكاوى التي يزعم أصحابها بأنه لا يعلم حالتهم إلا الله، أو أن ظروفهم لم تمر على أحد غيرهم.
لذلك؛ وبسبب هذا وغيره من الشكاوى فكرت في إطلاق مصطلح تقنين الشكوى.
إن البعض من البشر استعذب واستحسن موضوع الشكوى حتى يلعب دور الضحية، أو حتى يستدر عواطف الناس، أو هناك الصنف الثالث من الشاكين الذين أصبحت الشكوى لديهم عادة، فهو يبرمج نفسه على التشكي، وما عليه في كل صباح إلا البحث عن قضية يجعلها مبرراً لشكواه، إنه مثل ذلك الشاعر الذي تعوّد على البكاء، وأصبح يبكي في كل أحواله حينها استشعر أن بكاءه أصبح فقط من أجل العادة التي اعتاد عليها فقال:
هجم السرور علي حتى إنه من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين! قد صار البكا لك عادةُ تبكين في فرح وفي أحزان
في النهاية أقول:
إن تقنين الشكوى ليس له جهة رسمية تطبقه على الناس، بل الإنسان خصيم نفسه.
لذلك؛ حاول أن تزن أمورك، ودقق وتأمل، هل هي تستحق الشكوى؟
وقبل أن تجيب فكر في الأمور الآتية:
أولاً: إن كثرة التشكي تدل على الجزع، والجزع يدل على غياب فضيلة الصبر، تلك الفضيلة التي ذكرها القرآن أكثر من الصلاة لأهميتها، ويكفي ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
ثانياً: يجب أن نتعلم أن التشكي وعادة الشكوى نوع من الذلة والانكسار، لذلك قالوا في الأمثال: "الشكوى لغير الله مذلة".
ثالثاً: الشكوى رصيد مثل المال في البنك لذلك؛ لا تسحبها كلها وانتظر، لأنه سيأتي يوم عندما تداهمك الأمراض الحقيقية، أو يشتعل رأسك شيباً، لن تجد رصيداً يغطي تكاليف شكواك في هذه المرحلة، لأنك أنفقتها أثناء شبابك، لذلك يقول إيليا أبو ماضي:
أَيُّهَذا الشاكي وَما بِكَ داءٌ كَيفَ تَغدو إِذا غَدَوتَ عَليلا
رابعاً: تعمل معي فتاة عصامية مكافحة، اسمها "نظمية"، رغم ما تمر به من ظروف صعبة، إلا أنها عندما تسألها كيف حالك؟ تبتسم وتقول: "الحمد لله أنا في أحسن حال"، والسبب في ذلك أنها تعرف أن الشكوى لا تقدم ولا تؤخر، بل هي تستنزف الطاقة وتشغل الإنسان عن تطوير نفسه وتنمية ذاته.