للموسيقى ذاكرة استثنائية، عميقة التفاصيل، وشديدة الحساسية، ورقيقة، وعنيفة، ونفاثة، تنتشر بسرعة لتعبُرنا من الداخل، وتعود لتجمع ذاتها في نقطة البداية؛ حتى يأذن لها شخص آخر للانطلاق مجدداً لتصل معه إلى النهاية. صحيح أنها متعددة العلاقات، لكنها عادلة، ووفية، وصادقة.
يمكننا تخيلها، وتسمح لنا بفتح باب ذاكرتها، والكشف عن أسرارها، بشرط أن نأذن لها بالتطفل، وقراءة حتى الصفحات الممزقة من دفاترنا، تطلع عليها كما شاءت؛ لتفهم مشاعرنا، وتساعدنا على التعبير عنها، فهي تضاعف من مشاعرنا، وتحركنا بخفة، وتشعلنا بالدهشة، تسلينا، وتهدئ من قلقنا، وتمنحها حالات خاصة من السلام، كذلك أيضاً تتواطأ وبالقدر نفسه في تراكم ذكرياتنا المؤلمة، وخطها على ملامحنا، والتجاعيد العميقة التي ظهرت أو الخفيفة التي ستظهر عما قريب.
يؤكد الدكتور وليام جيمس أن الموسيقى فعالة بصورة خاصة، وذات إمكانات علاجية عظيمة للمرضى المصابين بتنوع من الحالات العصبية، فهم يستجيبون للعلاج بالموسيقى، وفي بعض الحالات تعيد الذاكرة للمرضى الذين يعانون من فقدانها.
وكأن حكاية اللحن هي حكايتنا، ومشاعرنا، وابتساماتنا، وخبراتنا، وانكماشاتنا، وتوهجنا، وانفعالاتنا، فإن ضاعت واحدة عثرنا على البديل الذي يجبرها للعودة من آخر الطريق والتذكر.
لا تنسى الموسيقى الحالة التي صاحبت نشأتها، تتشرب مشاعر صاحبها في لحظات تكوينها، وتعكسها في لحظة الاكتمال لنراها كما نرى أنفسها، في كل مرة تتكرر بصورة مختلفة تتناسب مع متلقيها ومشاعره.
تحتفظ الموسيقى بفخر بتاريخ أول مرة عُزفت بها، وتحترم الآذان والعقول المخلصة للحنها.
لا تنسى الآلات التي رافقتها وكانت السبب في نجاحها، ولا تخون اتفاقها الضمني مع الإيقاع وسرعته إلا بموافقته وقراره وحده.
هي لسان العاشق الخائف أو المتردد، وموافقة الفتاة الخجلة.
هي تاريخ المدن وروحها، تسكن المباني القديمة، وتفترش الأرصفة، وتعبر الشوارع حتى تصل إلى السماء، فتعلق في رطوبة الطقس، وتقفز على السحابة المحملة بالأمطار، وتتمايل بإتقان مع رقصات الشعوب، ولكل وطن موسيقاه الذي نعرفه بها.
للكتب أيضاً لون خاص نشعر به، هو غير مرئي، وكذلك له نغماته التي تدندن بصمت في آذاننا، ليست هي من تكونت على أثرها الجمل التي أعجبتنا وعلقت في مخيلتنا وحفظناها بإرادتنا، بل هو اللحن المفاجئ الذي عرض علينا مرافقته، فسمحنا له أن يرافق كتابنا من دون إعلان صريح، وكأنه اخترق إرادتنا، وجلس على كل الجمل يأبى الرحيل، يتراقص على إيقاع الصفحات وأطرافها.
تحدث واسيني الأعرج عن الموسيقى في كتاب طوق الياسمين، إنها المسؤولة عن منحنا شهوة الحلم، وهي من تحرك حنيننا وتذهب به بعيداً، وتجعلنا نتحمل قسوة الحياة وصرامتها.
أما نيتشه فكان يشعر بأنه يستمع للموسيقى بعضلاته ليس فقط بآذانه وعاطفته.
الموسيقى ليست كما نسمعها، بل كما تسمعنا هي.