كثيرة هي المشاعر التي تنتابنا ونحن نستقبل شهر رمضان المبارك بنفحاته الإيمانيّة العطرة، فهو ملاذ القلوب المنهكة والأرواح المتعبة، شهر اللّجوء لربّ العباد وتجديد النّيّة مع الله والاستغفار.
شهر يرحّب بكلّ المتخاصمين، حتّى يعيدوا النّظر بعلاقاتهم ويبادروا بالعفو والتّسامح الّذي هو خُلقٌ من أخلاق الرّسل، يطهّر القلوب من المشاعر السّلبية وأدران البغضاء، ويستبدلها بالإيجابيّة، المحبّة، الأمان، الرّحمة، التّواضع، والرّاحة النّفسيّة.
فالتّسامح سمة من سمات شهر البركة، كما أنّه أسلوبُ ترفّعٍ بالأخلاق عن سفاسفِ الأمور وصغائرها، يتحلى به المرء بالفضائل، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن شاتمهُ أحد أو قاتله فليقل إنّي صائم)، حيث أكّد النبي على التّسامح وأهمّيّته، وأنّه علامة من علامات قوّة الشّخصيّة، ذلك أنّ قوّته أكبر من قوّة الانتقام، والحديث الشّريف يوضّح ذلك: ( ليس الشّديد بالصُّرعة إنّما الشّديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وقد نهى الشّرع عن الغيبة والنّميمة وتتبّع عورات الناس أو تشويه سمعتهم، أو تعييرهم بنقصهم أو ضعفهم أو ذنبٍ قد ارتكبوه ليُظهر القائل نفسه بمرتبة المتفوّق على هؤلاء، كما وأنّ البعض يبرّء ذمّته على حساب سمعة الآخرين أو عملهم، والبعض الآخر يخترق الخصوصيّات، فيعبثون بهواتف الآخرين الجوّالة من دون علم أصحابها، ما يبرهن على سوء تصرّف هذا الشّخص، علماً أن ذلك لا يجوز شرعاً، فيهبطون بمبادئهم وقيمهم لأدنى درجات الانحطاط، قال تعالى: (يا معشرَ من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه من اتبع عوراتهم، يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته، وبالتّالي ينبغي المبادرة للتّوبة حتى يسلَم صاحبة من عقوبة الدّنيا والآخرة، فالتّائب من الذّنب كمن لا ذنب له.
شهر رمضان شهر تتجدّد فيه النّية مع الله، والدّعوة للتّسامح والصّفح، حتى يلقى الإنسان هذا الشّهر المبارك بقلب سليم صافٍ من الحقد والضغينة، فترتفع الدّرجات وتتضاعف الحسنات، ونعلَم أنّ التّغاضي عن بعض الأمور الصّغيرة بمثابة دعوة ليسامح الإنسان نفسه على تقصيره معها أولاً، ومن ثمّ طلب السّماح ممن أخطأ بحقّهم، وبالتّالي يستقبل شهر البركة بقلوب صافية نقيّة، لا يكدّرها غلٌّ ولا حقدٌ، فالتّسامح مهارة على الرّغم أنّه من أصول الدّين وتحضّ عليه جميع الأديان السّماوية، كما أنّ التّغاضي نصف العافية، ومرور الإنسان على أمر ما دون الوقوف عليه مع قدرته على القصاص مدعاةٌ لتآلف القلوب وطرد الكره من النّفوس، فتسمو الرّوح وترقى.
وهذه دعوة لاستقبال الشهر الكريم بمحوِ الذّنوب وتجديد النّفوس والابتعاد عن الانتقام وارتداء لباس التّقوى والعفو والحلم، قال تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم)، رمضان في القلب.