كَثيرة هِي المَفاهيم التي تَلتبس مَعانيها فِي الخَاطر، أو عِند النَّظر إليها تَجوس فِي أرض الوَاقع كاليَتيمة، وذَلك لأنَّها مَفاهيم فضفاضة لا سَاحل يَبدو لها، أو هُلاميّة تَتشكَّل وفق مَزاج المُشكِّل لَها، فتَبدو بهذا الانفلات نَهباً لِكُل مَن هَب ودَب، يُشكِّلها وفق مَزاجه وحَسب رُؤاه، لتَبقى بيَده عَصا يَهشّ به قطعان المُخالفين له في الرُّؤية، والمُنادين بغيرها!!
ومَا لي أذهب في التَّعميم بَعيداً، فليَكُن الأمر أكثر تَخصيصاً، لنَأخذ مُفردة ومَفهوم (البَساطة) نَموذجاً لذلك، يَأتي إليك زيدٌ من النَّاس قَائلاً: (يا سيّدي كُن بَسيطاً، حَتى يَفهمك البُسطَاء)، وتَسأل نَفسك مَن أعطى زيد الحَق ليَتحدّث عن البُسطاء ويَنوب عَنهم؟!!
لأنَّ طَلب التَّبسيط هُنا يَنطوي عَلى (تَعقيد) مِن المُرسِل، لَم يَقع فِي فَهم (زيد) مَوقع المُدرِك، وهَذا أمر مَحمود في دَائرته الاستفهاميَّة الشَّخصيّة، ولكنَّه يَبقى أمراً يَدعُو للالتباس حين يَتقمَّص (الفَرد) صِفَة الموجود، ويُعَمِّم (عَدم فَهمه) لأمر مَا بطلب التَّبسيط وكَأنَّه مَطلب (جَماهيري)!!
وأيًّا كَان أمر (زيد) وحَاله، فلقد تَغنَّى بالبساطة أيضاً وتَلذَّذ بذِكر مَحاسنها «أهل الصُّعوبة» والتَّعالي أنفسهم، فَأصبحتُ تَقرأ عَلى وُجوه «المُتبسِّطين» حِكمة للمُفكِّر لارو شفوكو القَائلة: (البَّساطة المُتكلّفة هي وَقَاحة دَقيقة)!!
إنَّ البَساطة الحَقيقيّة هِي طَبيعة ثَانية، ومِنحَة رَبانيّة، لا تُكتَسب بالادِّعاء، ولا تَتحصَّل بالتَّمنِّي، مَع الاحترام والتَّقدير للسيّد دُودو فِيل القَائل بأنَّ: (البَسَاطة التي يَنبغي أن تَكون حُرِّية طَبيعيَّة؛ غَالباً ما تَحتاج إلى دِراسة لاكتسابها)!!
كُن بَسيطاً، كُلٌّ يَدَّعي بأنَّه ذلك الرَّجُل، ولكن مَا البَساطة؟! ومَا حُدودها؟! وكيف يَفهمها أفراد الأمَّة الوَاحدة؟! إنَّها مَفاهيم رماديَّة، لأنَّ البَساطة فَضيلة شَأنها شَأن كُل الفَضائل!!
ونَحنُ نَعلم أنَّ الفَضيلة – أي فَضيلة – تَقع في الوَسط بين رَذيلتين، فالبَساطة وسط بين القَسوة والصُّعوبة من جهة، والرَّخَاوة والمِيوعة مِن جِهةٍ أُخرى!!.. إنَّها الفَضيلة.. والعَقَّاد يَقول قَبل حِين مِن الدَّهر: (الفَضائل يَستغلها السّيئون)!!.. فالبَساطة شُعورٌ دَاخلي، واستِلهَامٌ حَياتي يَزيد بالقَنَاعة ويَنقُص بالغُرور!!
إنَّني أستفهم القَوم؛ أين البَسيط؟ هَذا المسكين الذي يَتحدث عَنه كُل أصحاب الوُجوه القَاسيّة.. أين هو؟!.. لأنَّنا نَعرف أنَّ كُل فَرد في عين أمه غَزالاً، ولهذا يَبدو السِّياسيون أغرب (المُبسِّطين) مِن النَّاس، فَهُم لا يَنفكُّون يَتحدَّثون عن (المُواطن البَسيط)، وأنت إزاء هذا المُصطلح – المُواطن البَسيط - تَقف مَشدوهاً تَتساءل عن مَاهيّة هَذا البَسيط المُشار إليه بين المُواطنين، لتَجد أنَّهم مُتَّفقون بشيء من التَّعميم عَلى أنَّه ذَلك الذي رَق حَاله وقلَّ مَاله وكَثُر عِياله، فَهو لقلة مَاله – فِي نَظرهم – مُواطن بَسيط، يَعيش حَياة لا تَعقيد فِيها برَأيهم!!
والحَق أنَّ مِثل هَذا المُواطن البَسيط حَري بأن لا تُوصف حَياته (بالبَساطة)!! بَل إنَّها مُعقّدة وفي غَاية التَّعقيد، فهُو – في صِراع لإقامة مِيزان حَياته مع نُدرة مَدخولاته، يَقضم التَّفكير سَاعات يَومه كُلّها فِي سَبيل تَوفير (أبسَط) المُتطلَّبات اليوميَّة، أيُوصَف من يَعيش مِثل هَذا الصِّراع بأنَّه يَعيش حَياة بَسيطة؟!!
في النهاية أقول:
أيُّها النَّاس.. (بَسِّطُوا) لَنَا مَفهوم البَساطة حتى نَفهمها دُون لَبس، ونَستعملها دُون (تَبسيط) مُخِل!!
أحمد عبدالرحمن العرفج
Arfaj555@yahoo. com