يحلو للبعض مدح الوُجهَاء والكُبرَاء، وهذا حقٌ لهم، لا يُنازعهم فيه أحد، خاصةً مع اشتعال نيران المجاملة والدجل، في مفاصل المجتمع العربي الكبير..!
أما هذا القلم، فإنه يرى أن يمدح مَن يستحق المدح، وأعني به تلك الأشياء التي تخدمني بلا مقابل، مثل الحيوانات، أو الزهور التي تضحك بوجهي، أو المدن التي تضم جسدي، أو الوطن الذي يستوعب ويصبر على حماقاتي.. أو المأكولات التي أُهشِّمها بأسناني، وأرمي قشورها من غير شكرٍ لها، بعد الشكر لمُوجدها «الواحد القهار»..
هذه المأكولات لها فضلٌ عليَّ، ولحم أكتافي من خيرها، لذا سأكتب عن أعز أصدقائي منها، وهو: «الجُبن»، الذي يبعث على اللذة والانتعاش.. وأول ما يُميِّز «الجُبن» أنه مُتعدِّد، ويقبل الحوار، فلو دخلتَ أي متجر ستجد مئات الأنواع، ولن نسمع أن جُبناً كَفَّر جُبناً آخر، أو قال: «إنه يجب أن يُقطع من الأسواق»، فالأجبان مُتجاورة ومُتحابة، وأتحدَّى أي أحد أن يُثبت لي، أن جُبناً أفتى بمنع الاختلاط بين الأجبان..
وعندما كنتُ أعمل في الجمارك -في الفترات الصيفية أثناء الدراسة- كنتُ أتعجَّب مِن الإخوة المصريين، الذين لا ينقطعون عن أكل الجُبن، حتى في الحج، فهم يُحضرون جُبناً «تعيس الرائحة»، يُسمَّى «مِش»، وما ذاك إلا لأهمية هذا «الأبيض الفتَّان»..!
أكثر من ذلك.. كثيرٌ من المبتعثين في بريطانيا وفي غيرها، يتواصون بإحضار الجُبن من السعودية، رغم أن بريطانيا فيها آلاف الأجبان..!
يا قوم.. مَن مِنَّا ينسى «المطبّق بالجُبن»؟ والعجيب أن أحد أقربائي قال لي ذات وجبة إفطار: «إنني أكره الجُبن»، فقلتُ له على الفور: «ثكلتك أمك، والله إنك لمحروم، فالجُبن لا يكرهه إلا من سفه نفسه»..!
ومن مزايا الجُبن، أن أكثر الكتب مبيعاً في 2002م، كتاب اسمه: (How Moved My Cheese) الذي تُرجم إلى: (مَن حرَّك قطعة الجُبن الخاصة بي؟)، وكانت فكرة الكاتب تتخذ من الجُبن رمزاً لـ«الهدف»، بمعنى أنه يُشبه الجُبن، فيجب على المرء أن يكون مرناً، بحيث يُغيِّر مساره؛ عندما يكتشف أن خططه لا توصله إلى «الجُبن/ الهدف»..!
ومن أعظم مزايا الجُبن؛ أنه قبيلة بحدِّ ذاته، فهو نسب ينتسب إليه، ومن مِنَّا لم يعرف أُسراً كريمة -في طول الوطن العربي وعرضه- تحمل اسم «الجبَّان»، وما ذاك إلا لأنهم «يصنعون وينتجون الجُبن»..!
في النهاية أقول: إنني كُلَّما نظرتُ إلى المرآة، وشاهدتُ «خديَّ المُتورِّدين»، حمدتُ الله بما هو أهله، ثم شكرته على نعمه الكثيرة، التي منها «الجُبن»، الذي لن أُوفيه حقّه في مقال مثل الذي ترون، فالجُبن كُتبت عنه دراسات ومُجلَّدات، وأُقيمت لأجله مصانع ومنشآت.. لذا أقول: يا أيها الجُبن «اللذيذ»، اعذرني على التقصير، فأنت تعرف البشر لا يتركون «نكران الجميل»..!