استوصوا بالجُبنِ خيراً!

أحمد العرفج


‏يحلو للبعض مدح الوُجهَاء والكُبرَاء، وهذا حقٌ لهم، لا يُنازعهم فيه أحد، ‏خاصةً مع اشتعال نيران المجاملة والدجل، في مفاصل المجتمع العربي الكبير..!


أما هذا القلم، فإنه يرى أن يمدح مَن يستحق المدح، وأعني به تلك الأشياء التي ‏تخدمني بلا مقابل، مثل الحيوانات، أو الزهور التي تضحك بوجهي، أو المدن التي ‏تضم جسدي، أو الوطن الذي يستوعب ويصبر على حماقاتي.. أو ‏المأكولات التي أُهشِّمها بأسناني، وأرمي قشورها من غير شكرٍ لها، بعد الشكر ‏لمُوجدها «الواحد القهار»..


هذه المأكولات لها فضلٌ عليَّ، ولحم أكتافي من خيرها، لذا سأكتب عن أعز أصدقائي منها، وهو: «الجُبن»، الذي ‏يبعث على اللذة والانتعاش.. وأول ما يُميِّز «الجُبن» أنه مُتعدِّد، ويقبل الحوار، فلو ‏دخلتَ أي متجر ستجد مئات الأنواع، ولن نسمع أن جُبناً كَفَّر جُبناً آخر، أو قال: «إنه يجب أن يُقطع من الأسواق»، فالأجبان مُتجاورة ومُتحابة، وأتحدَّى أي أحد أن يُثبت لي، أن جُبناً أفتى بمنع الاختلاط بين الأجبان..

وعندما كنتُ أعمل في ‏الجمارك -في الفترات الصيفية أثناء الدراسة- كنتُ أتعجَّب مِن الإخوة المصريين، ‏الذين لا ينقطعون عن أكل الجُبن، حتى في الحج، فهم يُحضرون جُبناً «تعيس الرائحة»، يُسمَّى «مِش»، وما ذاك إلا لأهمية هذا «الأبيض الفتَّان»..!


أكثر من ‏ذلك.. كثيرٌ من المبتعثين في بريطانيا وفي غيرها، يتواصون ‏بإحضار الجُبن من السعودية، رغم أن بريطانيا فيها آلاف ‏الأجبان..!


يا قوم.. مَن مِنَّا ينسى «المطبّق بالجُبن»؟ والعجيب أن أحد أقربائي قال لي ذات ‏وجبة إفطار: «إنني أكره الجُبن»، فقلتُ له على الفور: «ثكلتك أمك، والله إنك ‏لمحروم، فالجُبن لا يكرهه إلا من سفه نفسه»..!


ومن مزايا الجُبن، أن أكثر الكتب مبيعاً في 2002م، كتاب ‏اسمه: ‏‎(How Moved My Cheese)‎‏ الذي تُرجم إلى: (مَن ‏حرَّك قطعة الجُبن الخاصة بي؟)، وكانت فكرة الكاتب تتخذ من الجُبن رمزاً ‏لـ«الهدف»، بمعنى أنه يُشبه الجُبن، فيجب على المرء أن يكون مرناً، بحيث ‏يُغيِّر مساره؛ عندما يكتشف أن خططه لا توصله إلى «الجُبن/ الهدف»..!


ومن أعظم ‏مزايا الجُبن؛ أنه قبيلة بحدِّ ذاته، فهو نسب ينتسب إليه، ومن مِنَّا لم يعرف أُسراً ‏كريمة -في طول الوطن العربي وعرضه- تحمل اسم «الجبَّان»، وما ذاك إلا لأنهم «يصنعون وينتجون الجُبن»..!


في النهاية أقول: إنني كُلَّما نظرتُ إلى المرآة، وشاهدتُ «خديَّ المُتورِّدين»، حمدتُ الله ‏بما هو أهله، ثم شكرته على نعمه الكثيرة، التي منها «الجُبن»، الذي لن أُوفيه حقّه ‏في مقال مثل الذي ترون، فالجُبن كُتبت عنه دراسات ومُجلَّدات، وأُقيمت لأجله ‏مصانع ومنشآت.. لذا أقول: يا أيها الجُبن «اللذيذ»، اعذرني على التقصير، فأنت ‏تعرف البشر لا يتركون «نكران الجميل»..!