كنت يوماً جالساً في سطح منزلي بجدة بضم الجيم، ولا زلت أتذكر تلك العصرية، حيث زارتني دائرة من دوائر الحزن التي تزور البشر بين مرة وأخرى.
في البداية لم أقاوم دوائر الحزن بل استسلمت لها، وبعد الاستسلام صارت حدة الحزن تتناقص شيئاً فشيئاً، ولكن لماذا تتناقص بسرعة؟
السبب في ذلك بسيط جداً وهو تذكر ما أنا به من نعمة حرم منها ملايين الناس غيري، ومن مجرد استحضار النعم زالت الغمة وانكشف الهم.
في تلك العصرية كان بين يدي كتاب لشيخنا مصطفى أمين، يتحدث فيه عن السعادة الناقصة التي غالباً ما يربطها الناس بالمال، وأخذ يتناول سير أهل الفن والشهرة أولئك الذين بعد أن قرأت سيرهم وجدت أنني أفضل منهم بمراحل كثيرة.
ومن تلك الأمثلة يقول أستاذنا مصطفى أمين في كتابه ما يلي:
«رأيت (عبد الحليم حافظ) وهو يلعب بالذهب، رأيته شقياً تعیساً معذباً محسوراً محروماً؛ لأنه لا يستطيع أن يمد يده إلى طبق الطعمية ويقول لي هامساً: «من يعطيني هذه ويأخذ كل أموالي»...!
ورأيت (أم كلثوم) بعد أن كونت ثروة ضخمة وهي تقول إنها مستعدة أن تدفع نصف ما تملك لتأكل بيضة واحدة مرة كل يوم، فقد منعها الأطباء سنوات طويلة من أكل البيض الذي كانت تعشقه وتهواه...!
وأذكر أن (أم كلثوم) كانت تقول لي دائماً إن أيام فقرها الشديد في قريتها كانت أسعد أيامها، عندما كانت أكبر أمنيةٍ في حياتها أن تأكل طبق مهلبية، وأنها كانت تتصور أن الفرق الوحيد بين فقرها المدقع وبين ثراء السلطان (فؤاد) سلطان مصر في تلك الأيام، أن السلطان كان يأكل مهلبية في الصباح، ومهلبية في الغداء، ومهلبية في العشاء وكانت (أم كلثوم) تتجه بعد عشائها المتواضع إلى السماء وتقول «یا رب خذ نصف عمري، وأعطني طبق مهلبية»..!
وأعطاها الله عمراً، وأعطاها رزقاً تشتري ملايين أطباق المهلبية! ولكنه لم يعطها الصحة لتأكل المهلبية في الصباح والظهر والمساء.
وفي النهاية أقول:
يا قوم: ما أسعدني بالقراءات التي أكحل بها عيني، فهي لا تعطيني المعرفة والفكرة والقدرة اللغوية فقط، بل هي تخبرني أيضاً أنني في سعادة كبيرة، بحيث آكل الفول والطعمية والبيض والمهلبية، التي حرم منها الفنان عبد الحليم حافظ والست أم كلثوم، وشرائح كبيرة من البشرية.