مَرّ الغَزل وفَنّ مُعاكسة الفَتيات بمَراحل طَويلة، وتَطوّرات جَميلة؛ حيثُ ابتدأ في العصور القَديمة بين أهل الرّعي، فكَان الرَّاعي يَتحرَّش مِن خِلال غَنمه بالرَّاعية، وبالتَّالي يَحدث التَّواصل، وقَد أرَّخ ذَلك المَوقف الشَّاعر العَربي «جميل بثينة»:
وَأَوَّلُ مَا قَادَ المَوَدَّةَ بَيْنَنَا
بِوَادِي بَغِيضٍ يَا بُثَيْن سبَابُ
وَقُلْنَا لَهَا قَوْلاً فَجَاءَتْ بِمِثْلِهِ
لِكُلِّ كَلاَمٍ يَا بُثَيْن جَوَابُ
وقَد سَجَّل أيضاً هَذه اللحظة التَّاريخيّة الشَّاعر «قيس بن الملوح»، عِندما قَال عَن حَبيبته بَعد أن كبرت، وحُجبت عَنه:
تَعَلَّقْتُ لَيْلَى وَهِيَ ذَات ذَوَائِب
وَلَمْ يَبْدُ لِلأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البُهمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا
إِلَى اليَوْم لَمْ نَكْبُرْ وَلَمْ تَكْبُر البُهمُ
ثُمَّ امتدَّت ظَاهرة الغَزل؛ لتَصل إلى مَكان الطَّواف دَاخل الحَرم، وقَد سَجَّل لَنا الشَّاعر «عمر بن أبي ربيعة» عَشرات القَصائِد في دِيوَانه، التي تَدلُّ عَلى مَا كَان يَقوم بِه مِن مُعاكسات ومُغامرات دَاخل البَيت العَتيق، ثُمَّ بَدأ الغَزَل يَتطوّر مِن خِلال رَسائل البَريد، حيثُ سَجَّلت لنا الأديبة «مي زيادة» مِئات الرَّسائل التي كَانت تَدور بَينها وبين أُدباء عَصرها، مِن أمثَال «جبران خليل جبران، والعقاد، والرافعي، وطه حسين».. وغَيرهم مِن الذين كَانوا يَتغزَّلون بـ«مي».
ثُمَّ جَاء الهَاتف وتَحوّل النَّاس إليه، فصَار الغَزَل يَتم مِن خِلال رَمي الأرقَام للفَتيات، أو وَضعه –خِلسة- في حَقائبهن، ونَظراً لأنَّ التَّوبة تَجبُّ مَا قَبلها، فقَد كُنتُ في يَومٍ مِن الأيَّام مِن الذين يَتسكَّعون في الأسوَاق، ويُعاكسون الفَتيات، والحمد لله أنَّني تُبتُ مُنذ زَمن، ولَكن لا بَأس مِن أن يَكون الإنسَان شُجاعاً، ويَذكر شَيئاً مِن هَذه المُغامرات..!
أتذكَّر أنَّني في حدود عَام 1408هـ كُنتُ أعاكس في شَارع قُباء، وهو شَارع مِن شَوارع المَدينة المُنيرة التي تَعجُّ بالفَتيات، وتَشتهر بالغَزَل، وكَان لديَّ رَقم هَاتف آخره 67712، ومِن عَادتي أن أمرُّ بسيّارتي بجوَار الفَتاة بهدوء وبُطء، وأُنادي بصوتٍ عَالِ مُردِّداً أربع مَرَّات: 67712 والمُفتاح مَعروف، وأتذكَّر أنَّ إحدَاهن قَالت: خَلاص يا بابا والله حَفظته، وهُناك فَتاة أُخرى كُنتُ أظنُّ أنَّها مِن أهل «البزنس» والتّجارة، فجَلستُ أُملي لَها الرَّقم بصَوتٍ عالِ وبطَريقة مُختلفة، حيثُ نَاديتُ قَائلاً: «نص درزن سبعتين درزن»، وكَرَّرت الرَّقم خَمس مَرَّات، فمَا كَان مِنها إلَّا أن وبَّختني قَائلة: «شَكل أُمَّك تبيع فَناجين قَهوة أو شَاي، أو أبوك حَكم مُباريات»..!
وقَد مَرَّت عَليَّ فَتاة يَبدو عَليها الوَرع، فأمليتها الرَّقم، وكَانت تَتَّصل كُلّ فَجر، وتَقول ثَلاث كَلِمَات ثُمَّ تُغلق السَّماعة، كَانت تَقول فَقط: الصَّلاة بَارك الله فِيك، وبَعد أشهر مِن اتّصالاتها، انقطعتْ بَعد أن قَالت في آخر اتّصال: لقد تَعمَّدتُ أن أفعل هَذا حتَّى تَتأدَّب، ولا تُؤذي بَنات النَّاس.. هَل تَرضى هَذا لأختك..؟!
وفي النهاية أقول:
إنَّ هَذه كَانت مُمارسات بَريئة، ومُراهقات كُلَّما تَذكَّرتها قَرضتُ أصابع النَّدم، مِن سوء مَا كُنتُ أفعل، ولله در آخر الفَتيات التي أحرَجتني بسُؤالٍ مَرير، قَائلة: هَل تَرضى ذَلك لأختك، وهَذا مَا أقوله للمُغازلين الجُدد، الذين يَستخدمون البلوتوث والإيميل، والفيس بوك وتويتر، وما يَحمله رَحم التّكنولوجيا مِن وَسائل اتّصال..!.