مع اقتراب مسبار الأمل من الوصول إلى مدار المريخ، أوشك حلم نجاح أول مهمة فضائية تقودها دولة عربية لاستكشاف الكواكب أن يتحول إلى حقيقة وواقع ملموس، لتصبح الإمارات خامس دولة في العالم تحقق هذا الإنجاز التاريخي، ورغم تمكن المسبار من تخطي العديد من التحديات إلا أن المراحل القادمة من مهمته التاريخية تعد الأصعب والأكثر خطورة.
ومنذ بدايته كمجرد فكرة طُرحت في الخلوة الحكومية التي عقدتها حكومة دولة الإمارات نهاية عام 2013 في جزيرة صير بني ياس، ضمن أفكار أخرى للاحتفال بطريقة مميزة باليوم الوطني الخمسين في 2021، مرّ مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ "مسبار الأمل" بالعديد من التحديات والمخاطر والمصاعب، وأحدثها التحدي الأصعب الآن وهو عملية إبطاء سرعته بشكل ذاتي ومن دون تدخل بشري مباشر من 121 ألف كيلومتر إلى 18 ألف، تمهيداً لدخوله إلى مدار الالتقاط حول المريخ، قبل انتقاله لاحقاً -في حال نجاح هذه العملية- إلى المدار العلمي ومن ثم بدء مهمته العلمية في جمع البيانات والمعلومات التي لم يتوصل إليها الإنسان من قبل حول الكوكب الأحمر الأكثر شبهاً بكوكب الأرض في المجموعة الشمسية.
مبادرة وطنية استراتيجية
في السادس عشر من يوليو 2014، تحول إرسال مسبار لاستكشاف المريخ من فكرة خضعت للدراسة والتخطيط الدقيق إلى مبادرة وطنية استراتيجية أعلنها الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي "رعاه الله" تحت اسم مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ. وقد اختار له الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم اسم "مسبار الأمل" ليكون رسالة أمل من دولة الإمارات إلى شباب وشعوب المنطقة.
وجاء إطلاق مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ "مسبار الأمل" تتويجاً لجهود نقل المعرفة وتطويرها التي بدأت في عام 2006 في مركز محمد بن راشد للفضاء، وهو ثمرة تعاون وثيق بين فريق من العلماء والباحثين والمهندسين الإماراتيين وشركاء دوليين لتطوير القدرات اللازمة لتصميم وهندسة مهمات فضائية. وتم تكليف مركز محمد بن راشد للفضاء من قبل حكومة دولة الإمارات بإدارة وتنفيذ جميع مراحل المشروع، في حين تتولى وكالة الإمارات للفضاء الإشراف العام على المشروع.
تحويل الحلم إلى واقع
وفور تلقي مركز محمد بن راشد التكليف ببدء تنفيذ المشروع، انطلقت رحلة تحويل الحلم والفكرة إلى واقع ملموس، وتشكلت فرق العمل من كوادر وطنية شابة من أبناء وبنات الوطن الذين واصلوا الليل بالنهار لإنجاز هذه المهمة الوطنية التاريخية خلال المدة الزمنية التي حددتها القيادة الرشيدة وهي 6 سنوات، حتى يتزامن وصول المسبار مع احتفالات الدولة بيومها الوطني الخمسين، في حين أن المهام الفضائية المثيلة يستغرق تنفيذها ما بين 10 إلى 12 عاماً.
ومن التحديات أيضاً أن يتم تطوير المسبار وعدم شرائه جاهزاً،الأمر الذي تحول إلى فرص لبناء قدرات الكوادر الوطنية العاملة في المشروع عبر برنامج يدمج بين الخبرة المكتسبة من قبل مهندسين عملوا منذ عام 2006 في تطوير أقمار اصطناعية وبين نقل معرفة وخبرة إلى الباحثين والمهندسين الإماراتيين، بالتعاون مع شركاء معرفة دوليين، فكان النهج في تطوير المسبار هو البناء على ما انتهى إليه الغير، بدلاً من أن نبدأ من الصفر، وهذا ما مكن الفريق بصياغة أهداف علمية تعتبر فريدة من نوعها ستزود العلماء حول العالم بمعلومات لم يسبق التقاطها عن الكوكب. .
وقد عمل فريق مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ في مركز محمد بن راشد للفضاء على تصميم المسبار وعلى تطويره مع شركاء نقل المعرفة في جامعة كولورادو في بولدر وجامعة ولاية أريزونا وجامعة كاليفورنيا بيركلي.
وعقب أن تخطى فريق عمل مسبار الأمل تحدي بناء المسبار بكفاءة في وقت قياسي يقل عن نصف المعتاد في المشاريع الفضائية المثيلة، حتى ظهر تحدي جديد تمثل هذه المرة في كيفية نقل المسبار إلى محطة الإطلاق في اليابان بالتزامن مع تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" عالمياً، وكان على فريق العمل أن يضع خططاً بديلة لنقل المسبار في الموعد في ضوء هذا التحدي المستجد، حتى يكون جاهزاً للإطلاق في التوقيت المحدد سلفاً في منتصف يوليو 2020، وهنا سجل الفريق إنجازاً جديداً في مسيرة تخطي التحديات، إذ نجح عبر خطة محكمة راعت كل التدابير الاحترازية في نقل المسبار إلى محطة تناغاشيما اليابانية، في قصة نجاح تستحق أن تروى وتتناقلها الأجيال.
اللحظة الحاسمة
ثم جاءت اللحظة الحاسمة التي ظل فريق العمل يترقبها بفارغ الصبر طوال 6 سنوات من العمل الدؤوب، وهي لحظة الإطلاق التي تحدد لها الساعة الأولى من صباح يوم 15 يوليو 2020 بتوقيت الإمارات، ولكن مسلسل التحديات الصعبة عاد ليطل برأسه من جديد، إذ تبين أن الظروف الجوية غير الملائمة لإطلاق الصاروخ الذي سيحمل المسبار، ليقوم فريق العمل بإعادة جدولة موعد الإطلاق ضمن "نافذة الإطلاق" الممتدة من 15 يوليو وحتى 3 أغسطس، علماً بأن عدم نجاح الفريق في إنجاز عملية الإطلاق خلال هذه الفترة كان يعني تأجيل المهمة بأكملها لمدة عامين. وبعد دراسات دقيقة لتنبؤات الأحوال الجوية بالتعاون مع الجانب الياباني قرر الفريق إطلاق مسبار الأمل يوم العشرين من يوليو عند الساعة 01:58 صباح بتوقيت الإمارات.
ولأول مرة في تاريخ المهام الفضائية لاستكشاف الفضاء يتردد العد التنازلي باللغة العربية، إيذاناً بإطلاق مسبار الأمل.
أصعب 27 دقيقة
وتعد مرحلة الدخول إلى مدار المريخ والتي تستغرق 27 دقيقة قبل وصول المسبار بنجاح إلى مداره المحدد حول الكوكب الأحمر من أصعب وأخطر مراحل المهمة، وخصوصاً أن التحكم بالمسبار سيكون تلقائياً من دون أي تدخل من المحطة الأرضية. فسيعمل المسبار طوال هذا الوقت بشكل ذاتي.
ولاحقاً، تبدأ المرحلة السادسة والأخيرة وهي المرحلة العلمية، وخلالها سيتخذ "مسبار الأمل" مداراً بيضاوياً حول المريخ على ارتفاع يتراوح ما بين 20,000 إلى 43,000 كيلومتر، ويستغرق فيه المسبار 55 ساعة لإتمام دورة كاملة حول المريخ. ويعد المدار الذي اختاره فريق مسبار الأمل مبتكراً للغاية وفريداً من نوعه، وسيسمح لمسبار الأمل بإمداد المجتمع العلمي بأول صورة متكاملة عن الغلاف الجوي لكوكب المريخ وطقسه خلال عام كامل. وستقتصر عدد مرات اتصال "مسبار الأمل" مع المحطة الأرضية على مرتين فقط في الأسبوع وتتراوح مدة الاتصال الواحد ما بين 6 إلى 8 ساعات، وتمتد هذه المرحلة لعامين، ومن المخطط أن يجمع المسبار خلالها مجموعة كبيرة من البيانات العلمية عن الغلاف الجوي للمريخ وديناميكياته. وسيتم توفير هذه البيانات العلمية إلى المجتمع العلمي عبر مركز البيانات العلمية التابع لمشروع الإمارات لاستكشاف المريخ.