أوصدتْ أعرقُ مكتبة في باريس هذه الأياّم أبوابها، وهوى صرح ثقافيّ كان معلما من أشهر معالم الحيّ اللّاتيني، ومثّل غلقُها بصفة نهائيّة حدثا حزينا اهتزّ له الرّأي العام داخل فرنسا وحتّى خارجها ،ومن النّاس والإعلامييّن من ذهب إلى حدّ وصف غلق هذه المكتبة ب"الصّاعقة" و"الكارثة" ،فمكتبة"جيبارجونGibert Jeune"التّي تقع ُعلى بعد أمتار قليلة من جامعة"السّوربون" عُمرها 135عاما) فتحتْ أبوابها عام 1886(،و كانت رافدا من روافد المعرفة على امتداد قرن ورُبع القرن ،وكان كبار الكتّاب كأندريه جيد وأندريه مالرو وغيرهما كثير من رُوّاد هذه المكتبة التّي أصبحتْ كأنّها مُؤسّسة للبارسيّين وللطلبة ، فالكل ّ يجد بين رفوفها ما يبحث عنه من كُتب جديدة أومُستعملة بأسعار معقولة.
ظروف نشأتها
وإنّ صاحب المكتبة الذّي تحملُ اسمه منذُ فتحها هو"جوزيف جيبار"، وهو أستاذ آداب جاء الى باريس من مدينة داخليّة هي "سانت إتيان" وراودته فكرة فتح مكتبة على بعد خطوتين من جامعة "السوربون"العريقة(تأسّست في القرن الثّالث عشر) يبيع فيها الكتب المدرسيّة والجامعيّة الجديدة منها والمستعملة، ونفّذ مشروعه وأقبل الطلبة والأساتذة على مكتبته إقبالا كبيرا،ومن حسن الصّدف أنْ صدر وقتها قرارحكوميّ بتعميم التّعليم في فرنسا وإجباريّته .
العصر الذّهبي
وعرفتْ المكتبة ،وقد توسّعت الى 4 متاجر في نفس الشّارع عصرها الذّهبي في حيّ ارتبط بالشّباب والمعرفة والأفكار ونسجتْ الأعوام رابطا يكاد يكون عائليّا بين المكتبة وبين أجيال مُتتاليّة من الطّلبة وأحبّاء الكتاب حتّى أنّ الجميع حسبوها أبديّة، ولمْ يُخامر أحد الشكّ أبدا بانْ يأتي يوم تُغلق فيه أببوابها ،الى أنْ هبّت العاصفة وغرقتْ السّفينة في الأيّام الأخيرة من الشّهر الماضي ولم تقدرالمكتبة أن تصمد أكثرأمام التحوّل التكنولوجي والرقمنة، ولم ينجح القائمون عليها في مُواجهة المُنافسة مع طغيان بيع الكتب عبرالوسائط الألكترونيّة المُتخصّصة في بيع الكتب وخاصّة العملاق الامركي "أمازون"،وانتشار عادات جديدة لدى الشباب في المطالعة وشراء الكتب.
يقول أحد العاملين في المكتبة ـ التي تبلغ مساحتها 6 آلاف و500مترمربّع و تروّج لحوالي 550ألف عنوان ـ انّ احفاد المؤسّس للمكتبة، وهم الورثة ،أصابهم الرّعب من طغيان الرقمنة ولم يُخططوا لها وبذلك جنوا على ّأنفسهم وأطلقوا رصاصة في أرجلهم ـ حسب تعبيره ـ
اقتصادُ الكتاب :اقتصاد هشّ
ومن الأسباب الأخرى التّي سارعت بموعد إغلاق المكتبة وباء "كورونا "،فالحيّ اللاتيني الذي يعجّ ب10 آلاف طالب وبعدد كبير من السيّاح أصبح شبه مهجور نتيجة القرارات الصّارمة التي اتخذتها الحكومة الفرنسيّة بغلق المطاعم والمقاهي والمدارس والجامعات والحجز الصحّي الشّامل .
والمُثقفون في باريس يحبون التجوال بين أروقة مكتبة "جيبار جون" يتصفحون على مهل الكثير من الكتب المتنوعة، وبسبب البروتوكول الصحّي لم يعد ذلك ممكنا وأصبحت المكتبة كالمبنى المهجور، وتبين انّ اقتصاد الكتاب هو فعلا اقتصاد هشّ.
صفحة طويت
ولفرط حبّ الناس لهذه المكتبة وتعلقهم بها، فانهم توافدوا على مقرّها المغلق بشارع "السّان ميشال"يضعون الزهورعلى أطلالها ومن بينهم من كتب كلمة نعي ورثاء والصقها على الجدار بجانب الباب المغلق وجاء فيها :"هنا سقطت المكتبة روح الحي اللاتيني " وأضاف مثلما يكتب على القبور تاريخ الولادة والوفاة( 1886 /2021) واختتم قائلا: إنّها صفحة طويت.
وفعلا: فان غلق مكتبة "جيبار جون" نهائيا هي صفحة من تاريخ الحي اللاتيني ومن تاريخ باريس قد طويت،وقال المؤرخ أريك أنسو :"إنّ قطعة منّا قد ذهبت بذهابها".