الحياة لا تنغصها الأمور الكبيرة، والمصائب الضخمة، لأن هذه المشكلات لا تحدث إلا عدة مرات في العمر كله مثل، أن تفقد أحد والديك، أو أبنائك، أو تخسر تجارتك بشكل كامل.
إن ما يزعج في الحياة هو المشاكل الصغيرة، لأنها كثيرة وتتعدد في اليوم الواحد، مثل أن تنام في غرفة فيها بعوضة فهي ستفسد عليك لذة النوم، أو تكون عند الإشارة فيمطرك من هو خلفك بوابل من البواري.
والآن دعوني أحدثكم عن أمر صغير ولكنه بالنسبة لي مزعج، وهو الإصرار والتلزيم عليّ أثناء الولائم والعزائم حتى آكل أكثر مما أحتاج وأطيق.
إنهم يبتزونني عاطفياً -حلوة يبتزونني عاطفياً- ويقولون: "الأكل على قدر المحبة"، وليت الأمر يتوقف على هذه المقولة بل تصل الأمور أحياناً إلى الزعل إذا لم تأكل كثيراً حتى تصاب بالتخمة وتنام بجوار الأكل، ولن أنسى ذلك اليوم الذي ملأ أحد الكرماء صحني بالرز واللحم، ثم صاح قائلاً: "عليّ الطلاق لازم تخلص صحنك" والغريب العجيب أنه يجبرك على أكل الطعام، ثم إذا قابلك بعد أسبوعين قال لك: "انتبه على نفسك وزنك زايد" .
يا قوم، صدقوني إن هذا الإصرار أو كما يسمى بلغتنا المحلية "التلزيم" لهو ضد مفهوم النصوص الدينية العامة، وضد الصحة وضد العقل.
أما النصوص الدينية فهي كثيرة ويكفي أن نذكر قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: ".. فثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنَفَسَه" وقد جاء في الأثر: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع" أما الصحة فكل الأطباء يؤكدون على عدم ملء المعدة، وأما العقل فإن العقلاء يقولون في أمثالهم إن "البطنة تُذهب الفطنة" أي أن ملء المعدة يجعل العقل متبلداً.
في النهاية أقول:
أتمنى من بعض أقاربي وأصحابي ومعارفي قراءة هذا المقال مرة أو مرتين وتدبر معانيه، وسأعلن الآن سراً كنت أخبئه في نفسي، وهو أن اعتذاري عن أكثر الدعوات التي توجه لي، كانت بسبب ذلك الإصرار والتلزيم الذي يجعلني أحمل معدتي فوق طاقتها، نعم.. لقد اعتذرت لأنني لن أكلف بعد اليوم بطني إلا وسعها، أما الأكل الزائد الذي تجبروني على أكله فهناك ملايين الفقراء ينتظرونه، وقد قال كاتبنا المنفلوطي: "إنه في يوم واحد قابل صديقين، الأول كان يشكو من كثرة الطعام الذي أكله، أما الثاني فكان يشكو من الجوع" وقال الرافعي: "ليت المتخم أعطى من طعامه للجائع حتى يسلم الاثنان من الشكوى".