لقاطني جنوب المملكة العربية السعودية نكهة شعرية وفنية خاصة، فقد حفظت جبال السراة والطبيعة الجغرافية الوعرة لأهلها - وعيشهم على قمم الجبال المقطوعة- سليقتهم اللغوية عبر الزمن، لذا حظيت الموسيقى اللغوية بحيز واسع من حياتهم اليومية بل كانت ومازالت دينهم وديدنهم في كل تفاصيل حياتهم، عند العمل في الحقول وعند استقبال الضيوف، عند التعبير عن مشاعرهم وفي أفراحهم وأتراحهم، وعند الحرب والسلم، فهي وسيلة وطريقة لحياتهم حفظت لهم تاريخهم، فالشعر الموسيقى المغنى لديهم هو ليس أمراً نخبوياً بل هو فطرة متجذرة بدمائهم توارثوها عن أجدادهم وورثوها لأبنائهم وأحفادهم.
أن تكون من أهل الجنوب في السعودية، يعني ذلك أن تتحدث شعراً حتى وإن كنت لا تقصده.
"سيدتي" تستضيف الأديب اللغوي أ.د محمد العمري أستاذ باللغة العربية وآدابها في جامعة الملك خالد بأبها، وتحاوره عن أنواع فنون الأداء الحركي والموسيقى اللغوية التي يتميز بها الجنوبيون.
بداية يقول البروفيسور العمري: قبل أن ندخل في أنواع الشعر المغنى دعينا نؤصل لمفهومين، الأول هو أن فن الشعر المغنى على شقين: أولهما يصاحبه أداء حركي جماعي، وثانيهما فردي لا يصاحبه أي أداء حركي.
أما المفهوم الثاني فهو أن "الطواريق أو الطرق" هو "اللحن والنغمة" بالمنطق الموسيقي، ويوازيها في الشعر العربي "البحور" المعروفة في علم العروض الذي يعرف به أوزان الشعر صحيحها من فاسدها.
تنوع الطواريق
ينوه د.العمري: بأن طواريق اللحن والشعر المغنى تختلف وتتنوع بتنوع مواقف الحياة، فبعض المواقف في الحياة تحتاج إلى التحميس والشجاعة، وبعضها يحتاج إلى الطرب والفرح والابتهاج، وبعض المواقف تحتاج إلى الحزن واستلال متاعب الحياة.
فن الأداء الحركي
الكثير من الطواريق الشعرية المغناة تصحبها حركات أدائية تتناسب مع الغرض المنشود، مشكلة تمازجاً فريداً بين الكلمة واللحن والأداء الحركي في لوحة متكاملة، وتختلف أنواع الأداء باختلاف أغراضه وهي كالتالي:
- فن العرضة: سميت بذلك لما فيها من استعراض للقوة وهي مرتبطة بلبس السلاح وبالأبيات الجادة والحماسية، وهي للتحميس أثناء الحروب، وتكون طريقة أدائها الحركي التابع للحن أشبه باستعراض عسكري.
- فن الدمة: وهو أيضاً فن أدائي مصاحب لنغمات شعرية موسيقية للتشجيع في حالات الحرب، وعلى المؤدي أن يتمتع باللياقة البدنية والحماس اللازم لتأدية هذا النوع من الفنون.
- فن اللعب: الغرض منه الترويح عن النفس ونشر البهجة وتميل أكثر موضوعاته لأن تكون غزلية وطبيعة ألحانه طربية، وأداؤه الحركي ليس فيه استعراض للقوة كما في العرضة بل يعتمد على إظهار أناقة الجسد، كما هو الحال عند استعراض ذكران الطيور أمام إناثها، أي تقوم على إظهار أرق ما في قلب الرجل.
- فن الخطوة: فن أدائي مصاحب لنغمات شعرية موسيقية، وهو أكثر رزانة وهدوءً من اللعب، ويغلب عليه الشكوى من متاعب الحياة العاطفية، إلا أنه دون طرق الجبل في ذلك، فهو في منزلة متوسطة بين فن اللعب بطربيته المفرطة وبين طرق الجبل بحزنه المفرط.
فن طرق الجبل أو الطراق
يكمل الدكتور محمد العمري، حديثه عن النوع الآخر من أنواع الموسيقى اللغوية، فالحزن في أبهى صوره يتجلى في فن طرق الجبل أو (الطِّرَّاق) كما يقال باللهجة العامية الجنوبية، وهو فن فردي غرضه الوحيد التنفيس عن الحزن فقط، ولا يحتاج إلى طبل ولا إلى مناسبة أو اجتماع، حيث يجلس فيه المؤدي (المغني) على قمة جبل أو على سطح بيت ثم يبدأ بالتغني بنغمة بالغة الحزن، فهو فن الشكوى من الأحزان وهموم الدنيا وفراق الأحبة ولا يصاحبه موسيقى وهو يعتمد على الصوت فقط وهذا المغني أو المؤدي الذي ينفس عن أحزانه يتجمع حوله الناس ويستمعون له وربما يصاحب هذا اللون شيءٌ من البكاء، فالبكاء تنفيس وتخفيف للاحتقان الداخلي وخاصة في منظومة اجتماعية تقدس القيم، لذا فالموسيقى اللغوية تشكل متنفسهم الوحيد، والحاجة للتغني ضرورة ملحة لإخراج اللهيب المتأجج في الداخل سواء كان هذا اللهيب هو لهيب جوع أو فقر أو عشق أو هجران أو خذلان أحبة.