تَسمع دَائماً عِبَارة: (دَعنا نُسَافر ونُغيّر جَوّ)، أو (هيّا نُسافر إلَى مَكانٍ هَادئ لنَلْتَقط فِيهِ أطرَاف السّعادة).. ومِثل هَذه العِبَارَات تَخدع النَّاس.. لذَلك دَعونا نَطرح أو "نَسْدَح" أو نَذْبَح السُّؤال الآتي: هَل المَكَان هو الذي يَصنع السّعَادَة؟ هَذا سُؤال كَبير، يَحتاج إلَى إجَابة كَبيرة، سأُحَاول تَصغيرها في هَذه الكِتَابة:
وقَبل أَنْ أُجيب، دَعونا نَتأمّل عِبَارة أُخرَى، وهي (المَكان الشَّاعري)، وأعنِي بِه ذَلك المَكان الذي تَستقر فِيهِ وتَستوطنه؛ لتقرض الشِّعر ولا تَقترضه.. ومِثل هَذه المَقولة بَاطِلَة، لأنَّ الشِّعر الحقيقي هو وَليد المُعَانَاة، والتَّعب والفَقر، ولَم يَحفظ التَّاريخ قَصيدة أنتَجها المَكان الرُّومَانسي، أو تَولّدت في القصُور الفَاخِرَة، البَهيّة الشَّامِخَة..!
إنَّ المَكان قَد يَكون مُريحاً للنَّفس، وعَامِلاً بَسيطاً مِن عَوامِل السَّعَادَة، ولَكنّه لَن يَكون أبداً سَبباً للسّعَادَة، لأنَّ التَّعيس يَنقل تَعاسته لكُلِّ مَكَان، حتَّى لَو كَان يَتسكّع في أطرَاف وجوَانب حَديقة "الهايد بَارك"، المَوجودة في لَندن. وإذَا كَان الإنسَان سَعيداً، فسيَأخذ سَعادته مَعه، ولَو كَان في السِّجن، وفي ذَلك يَقول الشَّافعي:
إِنْ أَبْعَدُونِي فَإِبْعَادِي سِيَاحَةٌ
وَإِنْ حَبَسُونِي فَحَبْسِي خلْوَةٌ
إنَّ السّعَادَة - في أَبْسَط صورهَا - هي تَصالُح الإنسَان "مَع نَفسه"، وعَقد سَلام بَينه وبين ذَاته، ومَتَى مَا وَصَل المَرء إلَى هَذه المَرحلة، فلا يَهم المَكَان، فالسّعَادَة شعُور دَاخلي، يَنبع ـ مِثل الإصلَاح ـ مِن الدَّاخِل، ولا يُمكن أنْ تَأتي السّعَادَة مِن الخَارج، فلا المَكان يَصنعها، ولا المَال يَشتريها، ولَو كَان هَذا الكَلام صَحيحاً؛ لرَأيتَ أَهل الأمَاكن الشَّامِخَة؛ البَاذِخَة السَّاحِرَة، هُم أَسْعَد النَّاس، وأيضاً لوَجَدتَ أصحَاب المَال؛ مِن قَبيلة المَسرورين السُّعدَاء، الضَّاحكين البَاسمين..!
في النهاية أقول:
عَلَيّنا أنْ نُؤكِّد مَرَّة أُخرَى وثَالِثَة ورَابِعَة، أنَّ المَكان لَيس هو الذي يَصنع سَعادتنا، لذَلك أُوصيكم ـ ونَفسي ـ بأن تُنتجوا السّعَادَة، وأنْ تَعيشوها في أي مَكان، وإذَا لَم تَكونوا سُعدَاء، فتَعالوا إلَى بُسَاطي العَرفجي، وأنَا كَفيلٌ غَارم لَكُم؛ عِند بَنك السّعَادَة..!!!