يُبدع العَربي في رَبْط أفراحه بأوقَاتٍ وأزمَات، فمَرَّة يَضرب موعداً مع السَّعادة حين يَتزوَّج، ومَرَّة أُخرى يَقول: سأكون سعيداً حين أحصل على وَظيفة، وفي ثَالثة يَقول: سَألبس ثوب السَّعادة عندما أشتري مَنزلاً أو أمتلك بيتاً..!
كُلُّ هذه مُحفِّزات على السَّعادة، ومُبشِّرات لها، ودَلائل على انبثاقها، ولكن - وما بعد لكن يَهم أحياناً - هل يَجب أن نَربط سَعادتنا بحلمٍ قد يَتحقَّق، وقد لا يَتحقَّق..؟! لماذا تَكون سَعادتنا دَائماً مُرتبطة بحَدثٍ أو دَافع، أو حتَّى يوم..؟! لماذا نَربط سَعادتنا بقدومِ العيد، أو قدوم مَولود، أو بالحصول على رَاتب مَرصود..؟!
حَسناً.. سَأضرب المَثَل بحياتي، فأنا لا أملك إلَّا نَفسي وحيواناتي، وإن كَانت الحيوانات بطبيعتها سَعيدة.. وأتحدَّى مَن يُثبت لي أنَّ هناك حيواناً؛ قد زَار عيادة نَفسيّة، أو تَناول حبوباً لمنع الاكتئاب، أو أقراصاً لدَفع الشَّك والارتياب، لذا سأتجاوز عن حيواناتي إلى ذَاتي، وأحكي لكم قصّة سَعادتي الهَاربة، التي لم اقتنصها إلَّا عندما بَلغتُ الثَّلاثين، ويا أسفاه على ذلك..!
عندما كُنتُ طفلاً، أخذتُ أنتظر السَّعادة، فكنتُ أربط سعادتي بشراء "حذاء العيد" الذي تَشتريه لي وَالدتي - حفظها الله ورعاها -.. وحينما كَبرتُ قَليلاً، رَبطتُ سَعادتي بحصولي على شَهادتي الابتدائيّة.. ثُمَّ كَبرتْ سَعادتي وانتفختْ - مِثل كروش بعض الرجال - فرَبطتُ سَعادتي بالحصول على شَهادة الكَفاءة المتوسّطة.. بعدها انتفختْ سَعادتي أكثر، وأصبحتْ سَمينة، لتَتعلَّق بشهادة الثَّانويّة العَامة.. ثُمَّ أصابتني التُّخمة، لأربط سَعادتي بالحصول على الشَّهادة الجَامعيّة، وقد حَصلتُ عليها وانتهت السَّعادة..!
في ذلك الوقت، كُنتُ بحاجة لمَن يُعيد نَفخ السَّعادة في نَفسي، فلم أذهب إلى بَنشر، أو كَما "عجلاتي"، بل اخترعتُ حلم الحصول على وَظيفة؛ أكسب بها قُوت يَومي، وأكون بذلك مِن السُّعداء، وقد حَصل ذلك.. عندها لم يَكن هناك أي مُحفِّز للحصول على السَّعادة.. فجلستُ أُمنِّي النَّفس بالسَّفر والسّياحة، أو الدّراسات العليا، حتَّى أزرع في نَفسي بذور السَّعادة مِن جَديد، ولكن بعدما وَصلتُ إلى الثَّلاثين، نَظرتُ إلى نَفسي في المرآة وقُلت: يا أحمد "أيُّها الغبي" - أو كَما يَقول بعض شباب الرّياض "يا دلخ" -، لماذا تَربط السَّعادة بحَدَثٍ أو تَاريخ، أو زَمانٍ أو مَكان..؟! لماذا هذا الغَباء..؟! "فالسَّعادة مَطروحة في الطَّريق، وكذلك المَعاني"، حَسبمَا صَرَّح بها زميلنا الأديب "أبو عثمان الجَاحظ"..!
في النهاية أقول:
استوصوا خَيراً بالسَّعادة، فأنا لم أجد مَن يُرشدني إلى أن العُمر دَقائق وثَوانٍ، وإن لم استثمرها بالسَّعادة، فقَطعاً ستستثمرني التَّعاسة..!
ومَتى قسَّم الإنسان أيَّامه، سيَجد أنَّ لَحظات السَّعادة لا تَتجاوز أصابع اليَد الوَاحدة، أو أصابع اليمين إن شِئتم، وهذه خسارة كبيرة، وكَارثة عَسيرة.. وفي مَقالٍ مقبل سأُحدِّثكم عن تَفاصيل العُمر الذي رَحل، وحكاية السَّعادة التي لم يَبقَ مِنها إلَّا أملٌ قَادم، وسرورٌ هَائم، وحُبٌّ دَائم..!.