لكل من الراوي والمؤرخ طريقته وأسلوبه في الكتابة، فهما يسيران إلى هدف واحد وهو نقل المعرفة وتحفيز مدارك الإنسان على القراءة والتفاعل معها، ووفقاً لما قاله جمال القصاص الشاعر لسيدتي أن الرواية والتاريخ ينتميان إلى حقلين متباعدين تماماً، فالأول يعمل على مادة تخيلية فيما يعمل الثاني، افتراضاً، على مواد تنتمي إلى عناصر واقعية تاريخية، وعلى الحوليّات والمواد المرويّة بصورة متواترة على ألسنة العديد من الرواة ومسجّلي وقائع التاريخ.
*الرواية عالمها خيالي
تبتكر الرواية عالمها، وتصوغ شخصياتها والأحداث التي تشكل عوالم هذه الشخصيات، فيما يسعى المؤرخ إلى سرد أحداث التاريخ وتركيبها وصياغة نسق تفسيري لهذه الأحداث، بحيث يبدو التاريخ متناغماً ومنطقياً ومقنعاً لدارسيه والراغبين في التعرف إلى صعود الممالك وهبوطها، وأشكال سير الحياة وطرق عيش البشر في الأزمنة السالفة. ظاهراً يبدو كل من عالمي الروائي والمؤرخ متفارقين لا يلتقيان، لأن الروائي يصنع مادته، فيما يعمل الثاني على توليف مادته، على جمع تفاصيل عالمه من أفواه الرواة وصحائف الكتب. الأول مبتدع للعوالم والشخصيات والأحداث والخيالات، أما الثاني فهو معنيّ باستعادة العوالم والشخصيات والأحداث والفضاءات التاريخية من غياهب النسيان.
من هذا المنظور يبدو الروائي صانعاً أما المؤرخ فجامع. ومن هذا المنظور أيضاً تكون غاية الرواية هي تحقيق المتعة والإدهاش في الوقت الذي يهدف التاريخ إلى الوصول إلى «الحقيقة التاريخية». الرواية تلفيق واصطناع، والتاريخ سعي إلى الوصول، بإخلاص البحث والعلم، ودقة الملاحظة والتبصر، إلى كبد «الحقيقة» الخافية في تتابع أحداث تاريخ البشر والعالم.
*المؤرخ والرواي
فالبحث في التاريخ مبني على قراءة التصورات التي أثّرت في مراحل التدوين عامة، وإعادة مراجعة الحقب التاريخية مرهونة بعدة مسارات، قد يبدو أوّلها في تغيّر الأنظمة السياسية، وينتهي بتبدّل قيم العقد الاجتماعي التي تحكم مجتمعاً ما، فالتاريخ كما وصل إلينا بلسان المنتصر قد أغفل رواية المهزومين والضعفاء.
فالمؤرخ غالبا ما يجد نفسه أمام خطابات تتضمن رؤية الوقائع التي حدثت من زاوية رؤية المدوِّن مع الاحتفاظ بمنبر التمحيص والتدقيق والمراجعة من خلال إيهام المتلقي بالمصداقية عبر السعي إلى تضييق المسافة بين الواقع والمحتمل، فنرى التاريخ يقدم لنا الأحداث بعموميتها دون النظر إلى التفاصيل التي تشكّل الكل إلا في حالة كانت تلك التفاصيل تدعم بصورة إجمالية، بينما الروائي الذي يرتكز على الحدث التاريخي يتخذ من التفاصيل محوراً للسرد بوصفها الحدث الذي لم يُروَ، وبصيغة أخرى هي الحدث الرئيس الذي وقع وسار بموازاة الحدث الأصلي الذي تمّ تدوينه.