يعود الشاب الفنيقي "أريش" (المحبوب) إلى بلده لبنان ما بين 29 كانون الثاني الجاري و26 شباط المقبل، ليكون في ضيافة "متحف الجامعة الأمريكية في بيروت" في معرضٍ يُقام استثنائياً لأجل ما بات يُعرف باسم "شاب بيرصا"، حيث يكشف للمرة الأولى الشكل الكامل لهذا الشاب الفينيقي الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، ويتراوح عمره ما بين 19 و 24 عاماً، وهو بمقاييسه الكاملة والدقيقة لكلّ أعضاء جسمه.
وبفضل عملية فنية ـ علمية متكاملة، تمكّنت الاختصاصية الفرنسية في فنّ "رأب الجلد" (Dermoplastie) إليزابيت دانييس، من إعادة تشكيل الهيكل العظميّ شبه التام، الذي اكتشف في مدينة قرطاج التونسية خلال عام 1994، ممّا سمح بتكوين أفضل نسخة ممكنة ملامح أجدادنا الفينيقيين الجسدية ومظهرهم الخارجي، باستثناء ألوان الشعر والجلد والعينين، التي لم يتمّ تحديدها بدقة، كونها لا تدوم مع الزمن ولا يبقى منها أثر يمكن الاستناد إليه، بعكس العظام ومقاييسها.
وقد بيّنت دراسة علم الإنسان (Anthropologie) التي قامت بها الاختصاصية التونسية سهام رودسلي شابي على الهيكل العظمي لهذا الشاب أنه "قوي البنية، وفارع القامة ويبلغ طوله 170 سنتيمتراً، ويتّسم بجمجمة تميل إلى الطول، وجبهته عريضة، ووجهه صغير نسبياً، وفتحة أنفه دقيقة، إلى جانب محجري عينين مرتفعين، فيما منطقة الذقن أقرب إلى المربّع، ما يقرب هذا الشاب من نموذج الإنسان الذي ينتمي إلى حوض البحر المتوسط".
وكان عثر على "شاب بيرصا" صدفة منذ عشرين عاماً في تونس، عندما أراد حافظ متحف قرطاج الوطني الواقع على هضبة بيرصا، زرع شجرة عند مدخله، حيث اكتشف عالم الآثار الفرنسي جان ـ كلود موريل قبراً يعود إلى العصر البوني الأول، ويحتوي على هيكل عظمي ممدّد على الظهر، والوجه يلتفت ناحية اليمين، والذراعان ممددتان على طول الجسم لترتاح اليدان على الحوض، موضوع في تابوت من الحجر الكلسي، وإلى جانبه مجموعة من اللقى الأثرية، تُشكل "الأثاث الجنائزي" الذي يتألف من 37 قطعة، ما يعكس رقي منزلة الشاب الاجتماعية.
وتكشف صحيفة "النهار" اللبنانية أنّ فكرة المعرض تعود إلى عام 2009، عندما حجزت د. ليلى بدر لتكون أول رحلة لأريش خارج تونس، إلى مسقط رأسه أرض الفينيقيين، لكن حوادث الثورة في تونس أخّرت الموعد، إلى أن هدأت الأحوال قليلاً، وصار في الإمكان نقله إلى لبنان.
وفي بيروت شيدت قاعات خشبية داخلية جديدة في صالة المحاضرات في متحف الجامعة الأمريكيّة خصيصاً لاستقبال هذا الحدث، استخدم فيها اللون الترابيّ ليعكس أجواء الموقع الأصلي، والأضواء الخافتة لإضفاء نوع من الخشوع والرهبة.
ويتألف المعرض من مسار يبدأ بقاعة تعرض مجموعة صورعن القبر في موقع اكتشافه، وفي وسط القاعة التالية تجسيد للهيكل العظمي (الذي يتعذر نقله من تونس) وعدد من الواجهات الزجاجية تحوي اللقى المدفنية المكتشفة ونصوص باللغات الثلاث، تشرح عن الموجودات وقصة الشاب وتاريخ الاكتشاف، وفق التسلسل الزمني، ليسلط الضوء القوي في القاعة التالية على مجسّم "شاب بيرصا" واقفاً ويرتدي ثوباً أبيض تزيّن أطرافه حاشية بلون الأرجوان. وينتهي المسار بعرض وثائقيّ قصير عن عملية إعادة التشكيل ومراحلها.
وكشفت الدكتورة بدر أنه في يوم الافتتاح، الذي سيحضره وزير الثقافة والسفير التونسي، سيأتي رجل من صور، بيّنت نتائج فحص حمضه النووي الذي سبق أن أجراه الاختصاصي الدكتور بيار زلوعة، أنه يحمل موروثات فينيقية، وسيلقي التحيّة على قريبه "أريش".