كانت «سلوى» تتعامل مع الرجال بطريقة القطار السريع الذي تكفيه محطة واحدة يتوقف فيها طوال رحلته. الفارق الوحيد أن المحطة الوحيدة في رحلتها مع الحياة هي محطة المأذون الشرعي. وكانت سلوى على النقيض تماماً من صديقة عمرها رانيا، والتي كانت رحلة عمرها أشبه بالقطار «القشاش» الذي يتوقف في كل المحطات مهما تأخرت الرحلة.
أربع زيجات
الغريب أن رانيا التي تزوجت أربع مرات في خمسة عشر عاماً لم تملّ الرحلة، ولم تسأم من محطات الفشل المتكررة، ولم تغضبها نظرة المجتمع المحيط بها. بل كانت تحلم بالمحطة الأخيرة، والرجل الذي تنطبق عليه مواصفاتها وكراسة شروطها. عاشت الصديقتان في عمارتين متجاورتين ونادٍ اجتماعي واحد، يقضيان معظم الوقت معاً. تسعدهما نفس الأشياء، وتنغص عليهما حياتهما نفس الأسباب. فكرتهما عن الرجل واحدة مع اختلاف بسيط في التفاصيل. كل منهما تؤمن بأن الرجل هو محور حياة المرأة وسرّ سعادتها أو تعاستها. لكنهما اختلفتا حول موقف حواء ممن تحب أو تختاره شريكاً لحياتها.
هل تكفي تجربة واحدة؟ أم أن الزواج مثل التجارب المعملية التي لا يمكن أن تحقق نتيجتها من المرة الأولى؟ «سلوى» هربت بجلدها بعد الزواج الأول. «ورانيا» تؤكد أن الرجل من أعظم مخلوقات الله، وأكثر رقة وعطفاً وحناناً وعطاءً فيما عدا الاستثناءات. وكان سوء حظها وراء وقوعها مع هذه النماذج المستثناة في كل مرة من مرات زيجاتها الأربع.
ذات مساء أصدر النادي العدد الأول من مجلته المطبوعة. تهافت الأعضاء للحصول على المجلة. استوقفت رانيا صفحة رائعة الإخراج؛ تحمل قصيدة رثاء حزين، نظمها أحد أعضاء النادي في زوجته، التي ودعت الحياة وتركته وحيداً يواجه ثورة الذكريات التي تأكل من حياته وتقصر من عمره. صاحت رانيا بأعلى صوتها تعلن عن إعجابها برومانسية الشاعر ووفائه لزوجته التي فارقت الحياة، ولم تعد قادرة على شكره أو رد الجميل له. التقطت سلوى المجلة.
قرأت القصيدة بشغف ونهم، ثم أعادت قراءتها وبكت. ومنذ هذه اللحظة لم يعد فارس إلى مائدة الصديقتين غير الشاعر الذي صار حديث النادي كله ونجم أمسياته. نساء كثيرات تمنين لو أن هذا الشاعر انتقلت عدواه إلى أزواجهن. بعضهن اقترب منه؛ بحجة تقديم العزاء. وبعضهن الآخر اقترب بحجة الإشادة بمولد شاعر رقيق المشاعر؛ لكن «حازماً» تعامل معهن جميعاً بعبارات الشكر وملامح الخجل وسرعة الانسجام التي أسهمت في خروجه من عزلته.
نجاح خطة رانيا
نجحت خطة رانيا في جذب حازم إلى مائدتها، وكانت سلوى ثالثهما. لم يعبأ الثلاثة بحديث الناس وهمساتهم وتخيلاتهم، وقصص الشائعات التي نسجوها حول مائدة المطلقتين والأرمل. سلوى لم تتحرج بعد أشهر خمسة من ازدهار الحوارات على المائدة من كشف أسرار تجربة زواجها الوحيد، ووصفت زوجها قائلة: «كان صدقه كذباً.. وحديثه حماقة.. وحياته قبراً بلا نبض».
وتجرأت رانيا وهي تروي كم أخطأت حينما رضخت أربع مرات لكلام الحب ومجانين غرامها، فاكتشفت في النهاية أن خطيئتها الكبرى أنها تزوجت ممن يحبها. وكان عليها اختيار شريك حياتها ممن تحب هي. لم يكتمل العام الأول حتى بدأ الانشقاق والتصدع يعرف طريقه إلى مائدة المطلقتين والأرمل. دبّت الغيرة في قلب رانيا؛ حينما شعرت بأن «حازماً» يرتاح إلى صديقتها سلوى. وتحولت غيرتها إلى حقد؛ عندما نشرت مجلة النادي قصيدة جديدة لحازم بعنوان «اعتذار»، قال في أبياتها إنه أخطأ حينما أقسم أنه لا امرأة بعد زوجته الراحلة. وأن في الدنيا امرأة أخرى تستحق أن يكتب عنها كل شعراء العالم؛ ليعبروا عن آيات الجمال فيها.
وعبثاً حاولت رانيا أن تحسن من صورتها أمام حازم، أو تخسره هي وسلوى معاً. ذهبت إلى صديقة عمرها تلوم عليها أنها خطفت فارس أحلامها وصاحب المحطة الأخيرة. وأنها سرقت منها رجلاً من اكتشافها فصمتت سلوى؛ حتى انسحبت رانيا يائسة من صديقة عمرها. ولم تبذل جهداً في توضيح الصورة لرانيا، بعد أن اعترف لها حازم بحبه، وصارحته بأنه وصل إلى محطتها متأخراً، ورغم هذا فلن تمنعه من ركوب القطار ومواصلة الرحلة معها. كانت سلوى لا تتمنى أن تخسر رانيا؛ لكن عند الاختيار فسوف تضحي أي امرأة بمليون صديقة من أجل حبيب يطلب الزواج.
مقاطعة النادي
تزوج حازم وسلوى، وضمهما عش سعيد. اعتقدا أن رانيا سوف تؤذي مشاعرهما، فأقلعا عن الذهاب للنادي، بينما كانت رانيا قد قررت مقاطعة النادي للأبد، وظلت مائدة المطلقتين والأرمل خالية.. مجرد ذكرى.. بل اعتقدت بعض الفتيات أنها مائدة السعد، وأن من تجلس عليها فلابد أن يكون لها لقاء مع المأذون، بعد تجربة سلوى عدوة الرجال. لكن كم من بيت تنغلق أبوابه كل ليلة على أسرار لا يدركها غير أصحابه. اكتشفت سلوى أن الشاعر الرقيق لم يكن يجيد في حياته غير نظم الشعر. وأنه لم يخلّد زوجته في أبياته إلا لكونها المرأة الوحيدة التي احتملت ذنوبه وخطاياه وهمجيته وكل الأمراض النفسية التي تجري في عروقه مجرى الدم.
حاولت أن تحتمل عاماً واثنين وثلاثة. كان خوفها من شماتة رانيا بمثابة الفرامل الزاحفة التي توقفها في آخر لحظة قبل أن تطلب الطلاق، إلا أنها لم تعد قادرة على الصبر مع بداية العام الرابع، وبعد أن ثبت في يقينها أن «حازماً» بدأ يشكوها لرانيا تشاجرت معه... استفزته... ضربها حتى سالت دماؤها... حررت محضراً وقدمته للمحكمة، فطلقتها من حازم. وللمرة الأولى يبكي حازم كما لم يبكِ رجل من قبل. أدرك أن الكنز الثمين ضاع من يده. الكنز الهائل من المشاعر والرومانسية والإخلاص والجمال وسحر الأنوثة. زوجة أطلقت المحكمة سراحها من يده. وبدلاً من أن يرق قلب سلوى؛ لانهيار حازم ولجوئه لاستئناف الحكم، وقفت تدافع عن نفسها بكل قوة، حتى أيّد الاستئناف حكم تطليقها.
وسرعان ما تُفاجئ سلوى الجميع؛ بعقد قرانها على رجل آخر؛ كيداً لحازم، وتؤكد له أنه لا أمل في استردادها. إلا أنه طلب من المحكمة في دعوى جديدة إبطال زواج سلوى، حتى تفصل محكمة النقض في الدعوى التي أقامها لنقض الحكم، خاصة أنها لا تزال في عصمته ولم يطلقها طلقة بائنة، وعلى هذا الأساس تعتبر جمعت بين زوجين في وقت واحد، وحتى كتابة هذه السطور، وسلوى تصرّ على أنها طلقت، والزوج السابق يصرّ على أنها لا تزال في عصمته، وزوجها الجديد يعيش معها تحت سقف بيت واحد، والمحكمة لا تزال تنظر في الأوراق.
المزيد: