من بين الموائد العامرة بما لذ وطاب من صنوف اللحوم والطيور لا تجد الأسماك، في بعض البلاد العربية (مصر والأردن وتونس والمغرب وغزة)، موطئ قدم طوال ثلاثين يوما في شهر رمضان الكريم، حيث يعتقد الكثيرون أن أكل الأسماك يثير الشعور بالعطش، حيث تستهلك الأسماك سوائل الجسم ليتم هضمها، وعلى الرغم من مجافاة هذا الإدعاء للحقيقة علمياً، إلا أن الكثيرين يؤمنون به بدون سبب منطقي، فلا يوجد أدنى علاقة ثقافية ولا علمية ولا حتى حياتية بين السمك وعيد الفطر المبارك، إلا أن شعوب هذه الدول يقبلون على الأسماك بأيام عيد الفطر تعويضاً عن افتقاده طوال شهر رمضان، على أن المصريين لديهم أسباب أخرى في هذه العادة والتي حافظوا عليها منذ آلاف السنين..!
• طعام الأعياد
د. نبيل رياض قلاوي باحث أثري ومتخصص في التاريخ الفرعوني والقبطي يقول لسيدتي: الأسماك بالنسبة للمصريين هي طعام الأعياد، وهدية الإله، فالأسماك يجود بها نهر النيل العظيم، والذي يسمى حعبى سيد النيل، جالب الخير والرزق والسعادة، وسيد الخصب والنماء الذى يمنع عنهم القحط والجدب، لافتاً أن الأسماك ظهرت على جدران المعابد والمقابر الفرعونية والبرديات بدءاً من الأسرة الخامسة حيث قام المصريون بتسجيل مراحل الصيد والحفظ ، وكان المصريون ينتظرون حتى يأتي يوم العيد فيذهبون إلى المعابد كى يقدموا القرابين لكسب الرضا والحصول على الخيرات، كما كانوا يتهادون بالسمك المملح خاصة السمك "البوري" وكانت تعد هدية ثمينة في ذلك الوقت.
• الحفاظ على الهدية
يؤكد د. نبيل أن المصريين حتى يحافظوا على هذه الهدية المقدسة ابتكروا طرقا لحفظ الأسماك من التلف كالتجفيف والتمليح ، لكي تظل بحالة جيدة أطول فترة ممكنة حتى يأتي العيد فيتناولوه فيه والذي يعد من شعائر الاحتفال بالأعياد فينالوا بها رضا جعبي، كما وجدوا أن فيضان النيل يستتبعه نفوق كمية كبيرة من السمك، فإرضاءاً للنيل قاموا بتجفيف الأسماك فهذا من الوفاء والإيمان، ولم يتوقف الأمر عن ذلك بل قام المصريون بتحنيط الأسماك لكي تكون خالدة كسيد النيل، كما أنهم استخدموا الأسماك كرموز مقدسة، فكانت أسماك القنومة تستخدم كرمز هيروغليفى لكلمة "خا" لتعبر عن الجسد المادى القابل للعطب والتحلل والتعفن، وللدلالة على دخول المحراب أو قدس الأقداس وعلى الولادة الروحانية استخدم المصرى القديم نوع من الأسماك التى عرفت بأنها تختبئ وسط الصخور فى أعماق النيل.
ظلت عادة تجفيف وتمليح الأسماك قبل العيد هذه العادة القديمة متجذرة في طقوس المصريين الاحتفالية بالأعياد، ومنها عيد شمو "شم النسيم"، أو عيد الربيع وعندما دخلت المسيحية والإسلام مصر ظلّ هذا الطقس الاحتفالي من العادات المقدسة التي لا يتخلى عنها المصريون ومن ثمّ فقد كسوا احتفالاتهم بأعيادهم القديمة حُلةًّ ً عربية وإسلامية ، فعيد الفطر هو عيد إسلامي ياتي بعد رمضان حيث يقومون بالاستعداد له من خلال حفظ وتجفيف الأسماك، ليأتي أول أيام العيد فيتناولوه على موائدهم .
تابعي المزيد: هل يحتفل المصريون بشم النسيم فى رمضان
• هدية ثمينة
يقول د. نبيل: "كان المصريون القدماء يتهادون بالسمك المملح خاصة السمك "البوري" في الاعياد وكانت تعد هدية ثمينة في ذلك الوقت.." ،كما كانوا يتناولون سمك البلطي والبياض (قشر البياض)، وهذا أصل إصرار المصريين على تناول الأسماك في أول أيام العيد، وأن تكون من الأسماك المملحة مثل الرنجة والفسيخ.
ويرى د. نبيل أن المصريين لا يتناولون السمك طوال رمضان لأن الأسماك المملحة أو حتى المجففة بالفعل تدعو للعطش ولذلك يأجلونها حتى يأتي العيد، فيتناولوا ما شاءوا بعيدا عن مخاوف العطش في يوم طويل من الصيام .
• عادة نُقلت عن المصريين
انتشرت هذه العادة كثيرا بين كثير من الشعوب العربية والإسلامية المجاورة لمصر، عبر الرحلات التجارية والزيارات والتبادل الثقافي فتجدهم يحذون حذوهم في الحرص على تناول الأسماك في أول أيام العيد، في حين أن الأمر لا يرتبط بعيد الفطر من قريب أو بعيد، فهو ليس أكثر من طقس احتفالي نمى من عادات وتقاليد توارثها المصريون عن أجدادهم وحافظوا عليها منذ آلاف السنين، وظلوا يمارسونها حتى العصر الحديث..
تابعي المزيد: العيد.. فرحة واحدة رغم اختلاف الطقوس