ليس مجرد مكان لصف عشوائي للصدف، بل هو متحف متكامل يبدع فيه شاب ثلاثيني، يعمل في حرفة تنزيل الصدف، ليبتكر الأثاث الدمشقي، بأشكال صدفية دقيقة ومتكرّرة محدّدٌ بعضها بالخشب. في النهاية تستقرّ العين على كرسي مصدّف ذي مقعد مغطّى بقماش البروكار أو القماش المطرّز، وزخارف كأنها الطبيعة على واجهات المرايا العالية وتيجانها، التي تغطي بابَي الخزانة، وتحتهما أدراج كبيرة وصغيرة مزخرفة بصدف مماثل.. كل هذا يأخذ محله في روعة من التشكيل المعقّد والصعب. إنّه مصمّم الديكور الشرقي الدمشقي زاهر سمير، الذي أخذتنا كاميرا زوم في أرجاء مشغله الذي يتعالى فيه صوت المطرب الراحل عبد الوهاب؛ ما جعلنا نغوص معه في هذا المكان المليء بالحنين إلى الماضي.
هواية ثم فن ثم حرفة، هي كالشعر الذي لا يمكن تعليم كتابته، وكالغناء الذي لا يمكن جعله طرباً إلاّ بروعة حنجرة صاحبه، هكذا هو تنزيل الصدف على المفروشات، كما وصفه زاهر، في حرفة عمرها مئات السنين، بدأت وسط دمشق لتبدع قطع أثاث كانت تصنّع فقط للملوك والعائلات الثرية والسلاطين آنذاك، يستدرك زاهر: «أعتمد على تنزيل الصدف الطبيعي داخل الخشب بشكل مزخرف، فمقاس كلّ قطعة صدَف واحدة بعد نحتها، لا يتجاوز سنتيمتراً واحداً، وهي تنزّل على الخشب بشكل أحادي، وهنا تكمن صعوبتها وتميّزها؛ ما جعل دمشق المتفرّدة والوحيدة بصناعة هذه الحرفة، التي ورثناها أبّاً عن جد».
يدير زاهر شركة Original Antique التي أسسها والده عام 1961، وهو ورثها عن والده حيث كان اسمها آنذاك «بيت التحف الشرقية» في عام 1911، ومنه انتقل إلى الجيل الثالث، وصقلها زاهر دراسياً بالتخصّص في مجال التصميم الداخلي.
صناديق القصص والحكايات
يذكر زاهر مشهد والده، الحاج سمير الحجة، وهو ينحني فوق قطعة الأثاث ليملأها صدفاً بيده، لتحفر مكاناً لها في أحد القصور، ثمّ يناول ابنه قطعة بيده الأخرى ليعلمه سرّ هذه الصنعة، وهو ينتظر منه الجديد في المستقبل. يتابع قائلاً: «بدأت أتمرّن على قصّ الصدف يدوياً، وتفصيل الخشب إلى قطع صغيرة كالصناديق والبراويز، وتصميم قطع الهدايا للسائحين بفترة العطلة الصيفية، فدخلت عالماً آخر مملوءاً بالقصص والحكايات والمهارات القريبة من اختصاص هندسة الديكور، فصرت أصمّم قطعة الأثاث وأقوم بتصديفها».
حفاظاً على هوية الحرفة، عاهد زاهر نفسه، ألا تخرج قطعة من معمل العائلة إلّا متقنة بأدقّ تفاصيل الصناعة؛ حيث تصطف فيها كلّ قطعة صدَف، مهما صغر حجمها، في الخشب بشكل يدوي، يلفّها الخيط الفضّي لتكتمل الصورة الدمشقية المميزة بالعراقة والدقة نفسها، يضيف زاهر: «لهذه الأسباب، تحتاج القطعة إلى وقت يتعدّى الشهرين لتنتج، ولأنّ جميع المواد المستخدمة طبيعية وصنعت يدوياً بحرفية عالية، وقد تتوارث العائلة القطعة لمدة تتجاوز مئة وخمسين عاماً من دون أن تفقد جماليتها».
تابعي المزيد: المصممتان نور وميساء صقال: أعمالنا تهدف إلى تحفيز المشاعر
مقاطع الفيديو على اليوتيوب
صنعت طاولة بالصدف الطبيعي في ساحة تايمز سكوير بنيويورك أمام حشد كبير من الجمهور
مثل أي لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية، تتطلب هذه الحرفة اليدوية موهبة ومهارة تثقلها؛ حيث يختار زاهر أمهر العاملين الذين لا تقل خبرتهم عن عشرة أعوام في المهنة للمحافظة على الجودة العالية في التصنيع، ويقيم الورش التعليمية، وهي حكر على مدينة دمشق بحكم نشأتها وتاريخها. يقول زاهر: «أحرص على مساعدة كل من يريد تعلّم هذه الحرفة الفنية، وهي تجذب المواهب الحقيقية القابلة للتطوير، وعادة ما أسجل مقاطع فيديو توضيحية لمراحل صناعة قطع الأثاث، لنشر هذه الثقافة العريقة.. طموحي هو الوصول إلى العالمية بتصاميم دمشقية عصرية ممزوجة بالروح الشرقية يعود بيعها إلى الأسواق، فهي لا تقلّ أهمية عن أي منتج إيطالي فاخر؛ لأنّ أغلب من يرغبون في اقتنائها، هم من فئة الشباب الذين يمزجون بين الحداثة والعراقة، لتلائم بيوتهم العصرية».
«غرّد خارج السرب»
«صناعة الأثاث هذه حرفة ذكورية بامتياز، بسبب صعوبة ظروف العمل بها»، كما يقول زاهر، فلا وجود يذكر للنساء في عملهم، يعلّق قائلاً: «إنّ مرحلة الرسم النباتي هي أكثر مرحلة ملائمة للجنس اللطيف».
«غرّد خارج السرب»، هو عنوان المرحلة القادمة من أعمال المصمّم زاهر، في تصنيع القطع الشرقية، ويستطرد قائلاً: «قديماً كانت غالبية البيوت تكتفي بوضع قطعة أو قطعتين داخل المنزل، لكثرة عدد الصدف الموجودة في القطعة، أما في أيامنا هذه فنكتفي بوضع لمسات تصديفية على جوانب معيّنة من الأثاث، وهذا يجعل اقتناء أثاثاً لغرفة كاملة أمراً مريحاً للعين».
يشكل الصدف تصميمات مستدامة تتوارثها العائلات لأكثر من 150 عاماً
تابعي المزيد: المصممة رانيه حامد: لكل مشروع أتولاه مفهومه الفريد
الذوق الرفيع
يمتدّ عمر الأثاث الصدَفي لأكثر من مئتي سنة؛ ما يخوّله لأن يكون تحفة فنية في المستقبل، تتوارثها العائلة، وهذا يخفّف من القيمة الاستهلاكية، ويحاكي البيئة المستدامة، التي يكرّس العمل عليها العالم بأكمله، يستدرك قائلاً: «في الخليج توجد الشريحة الأكبر من الناس الذين يقدّرون تماماً مدى الجهد والتعب التي تحتاجه كل قطعة فنية تُصنع يدوياً. فهم يملكون ذوقاً رفيعاً، ويحرصون على اقتناء قطع يدوية التصنيع في بيوتهم، وهذا نادراً ما تراه بين شعوب العالم. كما أنّهم يلغون جميع المقارنات بقطع الأثاث العادية، وقد تشرّفت بوضع أثاث لكثير من الأمراء ورجال الأعمال السعوديين والقطريين والكويتيين والإماراتيين».
طاقة إيجابية
لا تحتاج قطع الأثاث الصدَفي سوى إلى تنظيف بقطعة قماش جافة للحفاظ على لمعة الصدف؛ إذ تنبعث الطاقة الإيجابية في تفاصيل كلّ رسمة يضعها زاهر على القطعة، يوضح قائلاً: «أغلب قطعنا يطغى عليها طابع الرسم النباتي، وهو ما نعدّه باقة ورود دائمة تنشر التفاؤل في المنزل، كما أنّ بياض الصدف ناصع ولامع، ويعزّز الفخامة والرقي في المكان».
في نيويورك، أبدع زاهر في شقة بناطحة سحاب لرجل أعمال عربي، عندما صمّم أثاثاً كاملاً، من التصديف الرائع. كما أنّه اغتنم فرصة وجوده هناك، ليصنع طاولة بالصدَف الطبيعي في ساحة تايمز سكوير أمام حشد كبير من الجمهور. وقد حقق يومها، الفيديو الذي نشره الترند، بسبب الحشود التي أحاطت به، وهي تراقب إبداعه، لتنشر الفيديو بعدها على السوشيال ميديا.
تابعي المزيد: المصممتان هدى بارودي وماريا هبري: نروي قصص الثقافات من خلال المنسوجات