«السينما هي كيفية أن تعيش أكثر من حياة.. حياة جديدة مع كل فيلم تشاهده»، مقولة خالدة أطلقها المخرج الأميركي روبرت ألتمان Robert Altman، ولكنها تعرضت لاختبار حقيقي مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بعدما اكتشف المخرج مارتن سكورسيزي أن الحياة الجديدة التي تصنعها السينما مهددة بالضياع، وأن 75 في المئة تقريباً من تراث السينما العالمية مهدد بالاختفاء للأبد، وظهر وقتها مصطلح «ترميم الأفلام»، الذي تطور لاحقاً وبات عملاً مؤسسياً تتكاتف فيه المهرجانات العربية والعالمية مع شركات الإنتاج من أجل إنقاذ جواهر السينما الكلاسيكية حول العالم.
حماية تراث السينما العالمي
بدأت نقطة الانطلاق نحو حماية تراث السينما العالمي من الضياع، عام 1990، عندما أسس سكورسيزي بمشاركة مجموعة مخرجين أميركيين، منهم ستانلي كوبريك، وكلينت إيستوود، وفرانسيس فورد كوبولا، وستيفن سبيلبيرغ، ووودي آلن، «مؤسسة الفيلم» (The Film Foundation) في مدينة ليون الفرنسية، وكان الهدف المعلن وقتها هو الحفاظ على الأفلام الأميركية الكلاسيكية، واستعادتها، وترميمها، وتصدت المؤسسة لمهمة عاجلة تستهدف ترميم 750 فيلماً أغلبها من عصر السينما الصامتة، منها 100 فيلم أهديت لأرشيف أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة. وفي عام 2007، أسس مارتن سكورسيزي «مؤسسة سينما العالم» (World Cinema Foundation)، بهدف الحفاظ على تراث السينما العالمية، واستعادته، وترميمه، ونجحت المؤسسة بالفعل في ترميم 39 فيلماً لغاية الآن من آسيا وأفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا الوسطى وأميركا الجنوبية والشرق الأوسط، ومن الأفلام التي تم ترميمها فيلما «المومياء» و«شكاوى الفلاح الفصيح» للمخرج المصري شادي عبد السلام، و«الأيام، الأيام» للمخرج المغربي أحمد المعنوني، و«الفتاة السوداء» للمخرج السنغالي عثمان سمبيني، و«وقائع سنين الجمر» للمخرج الجزائري محمد الأخضر حمينة، و«سايات نوفا- لون الرمان» للمخرج سيرجي باراجانوف.
أول محاولة لإنقاذ تراث السينما العربية
الاحتفال بترميم فيلم «المومياء» وإنقاذه من التلف (على الرغم من عدم عرض النسخة المرممة حتى اللحظة)، فتح الباب واسعاً لرصد ومناقشة كارثة فقدان نحو نصف تراث السينما المصرية والعربية، بعدما تبين أن من بين 6000 فيلم تم إنتاجها منذ تدشين صناعة السينما في مصر قبل 125 عاماً، لا يوجد إلا ما يناهز 3500 فيلم، أغلبها في حالة فنية سيئة للغاية، سواء في الصورة أو الصوت، أو تلف بعض الكادرات بسبب سوء التخزين وتعريض النيجاتيف للرطوبة ودرجات حرارة عالية، وعدم وجود أي صيانة للشرائط بعد العرض. وكانت المبادرة الأولى من المركز القومي للسينما في مصر، الذي أعلن تكفله بترميم بعض الأفلام التسجيلية القصيرة، بوصفها من مقتنياته وتكلفة ترميمها مناسبة لميزانيته، من بينها فيلم «وصية رجل حكيم» للمخرج داود عبد السيد، وتم وقتها إطلاق دعوة من خالد عبد الجليل مستشار وزير الثقافة المصرية لشؤون السينما، لتأسيس «السينماتيك المصري» ليضم أرشيف كل الأفلام المصرية، والبدء بترميمها بالتنسيق مع المراكز العالمية المتخصصة، ولكن مثل كل الأفكار التي تحتاج تمويلاً ضخماً تم تجميدها، مع أن وزارة الثقافة المصرية، بحسب خالد عبد الجليل، تملك 265 فيلماً، منها 160 فيلماً من أهم كلاسيكيات السينما التي قدمتها المؤسسة المصرية العامة للسينما، وجميعها في حاجة إلى الترميم لإعادة تأهيلها في العرض على القنوات.
مبادرة غير مسبوقة
جاءت النجدة الحقيقية لأرشيف السينما المصرية من شركة «روتانا»، التي قدمت عام 2014 مبادرة غير مسبوقة بترميم 1650 فيلماً دفعة واحدة، كانت كلها في حالة فنية سيئة ومهددة بالضياع، وبحسب البيان الرسمي الصادر وقتها عن الشركة، تكلف مشروع إعادة الحياة لتلك الأفلام نحو 10 ملايين دولار، وقد تم بنتيجته تحسين جودة هذه الثروة السينمائية بدرجة نقاء تصل إلى 4K، وهي أنقى مادة فيلمية عرفت في التاريخ، وأضاف البيان أن شركة «روتانا» لم تبخل على هذا المشروع الذي استغرق طاقة كبيرة؛ أي جهد أو مال من أجل إعادة ترميم كلاسيكيات السينما المصرية التي تعد كنزاً ثقافياً للعرب، كما وجّه تحية لعمالقة الفن.
كيف تم إنقاذ تراث يوسف شاهين؟
ما فعلته «روتانا» دفع بعض شركات الإنتاج المصرية إلى إعادة ترميم أفلامها الكلاسيكية، ولعل التجربة الأبرز كانت في شركة «مصر العالمية» المملوكة للمخرج الراحل يوسف شاهين؛ حيث فوجئت وريثته المنتجة ماريان خوري بدعوة من صاحبة دار عرض سينمائي في فرنسا، لحضور عرض خاص لأفلام يوسف شاهين في باريس، وتبين أن السيدة جمعت نسخاً نادرة من أفلام المخرج المصري العالمي بعضها لم يعرض أساساً في مصر، مثل الفيلم المجهول «رمال من ذهب» من بطولة فاتن حمامة.
وأضافت ماريان خوري أنها تلقت معلومة بوجود نسخ من أفلام يوسف شاهين وأرشيف التصوير في السينماتيك الفرنسي. وبعد التواصل معهم، تم تدشين مشروع ضخم لإعادة ترميم أفلام يوسف شاهين بالكامل بالاستعانة بالنسخ المتوافرة. وبالفعل، تم الانتهاء من ترميم 20 فيلماً بشكل كامل عرضت جميعاً في أسبوع النسخ المرممة بسينما زاوية في القاهرة، من أبرزها: «سيدة القطار» للراحلة ليلى مراد، والناصر صلاح الدين، والفيلم الشهير «الأرض»، ولا يزال هناك 25 فيلماً قيد التحضير للخضوع للترميم، ويتحمل المركز الفرنسي المتخصص جزءاً كبيراً من التكلفة، عبر منحة تقدم إلى الأفلام التي أنتجت قبل عام 2000 بتمويل مشترك مع جهات فرنسية.
وأشارت ماريان خوري إلى أن ترميم الأفلام عملية صعبة جداً بصعوبة تصوير فيلم جديد، فضلاً عن التكلفة العالية جداً لترميم الشريط السينمائي؛ لأن الترميم معناه أن تمنح الفيلم حياة جديدة، ونوهت إلى أزمة فنية تواجه عملية ترميم الأفلام القديمة، وهي عدم وجود المخرج أو أي عنصر فني لتوجيه فريق الترميم حفاظاً على العناصر الفنية الأساسية للفيلم، خاصة شريط الصوت والإضاءة والكادرات المفقودة من الشريط الأصلي، وطريقة تعويضها من النسخ المطبوعة حال تواجدها.
"كانت المبادرة الأولى من المركز القومي للسينما في مصر، الذي أعلن تكفله بترميم بعض الأفلام التسجيلية القصيرة"
مهرجانات الأفلام
كانت المبادرات السابقة، في أغلبها، من شركات إنتاج للحفاظ على ثروتها من الأفلام، ولكن في الأعوام الثلاثة السابقة، شهدت مهرجانات الأفلام في العالم العربي مبادرات تطوعية لترميم كنوز التراث العربي، فتقدم مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الثانية بمبادرة ترميم «خلي بالك من زوزو» و«غرام في الكرنك»، بعد انقضاء خمسين عاماً على إنتاجهما، بالتعاون مع راديو وتلفزيون العرب ART، ونشاط السينما بالشركة القابضة للاستثمار في المجالات الثقافية والسينمائية التابعة لوزارة الثقافة. وقال محمد التركي، الرئيس التنفيذي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، «نحتفل بمرور خمسين عاماً على أشهر الأفلام العربية الكلاسيكية، وذلك بإعادة ترميمها حرصاً منا على حفظ تاريخ السينما العربية، فعلى الرغم من أن عملية ترميم الأفلام تعدّ عملية مكلفة ومعقدة ولا تقل جهداً عن إنتاج فيلم جديد، فإن العمل على ترميم أفلام شكلت جزءاً من الموروث السينمائي العربي يستحق منا هذا الجهد، فضلاً عن كونها فرصة جديدة لإعادة إحيائها وتقديمها إلى الجمهور».
وفي الدورة الثالثة توسعت اهتمامات مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، لتضم 7 أفلام ضمن برنامج «كنوز البحر الأحمر»، من بينها فيلما «انتصار الشباب» للمخرج أحمد بدرخان و«عفريت مراتي» للمخرج فطين عبد الوهاب بالشراكة مع الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي.
كما شهد مهرجان لوكارنو السينمائي هذا العام مبادرة ترميم فيلم «باب الشمس» للمخرج المصري يسري نصر الله، بعد 19 عاماً من عرضه الأول، وأكد يسري أن الفيلم على الرغم من حداثة إنتاجه، فإنه تعرض للتجريح، وتمت معالجته عبر عملية الترميم ليعرض وكأنه من إنتاج هذا العام.
ودخل مهرجان القاهرة السينمائي التجربة، بترميم أفلام «أغنية على الممر» للمخرج علي عبد الخالق، وفيلم «يوميات نائب في الأرياف» للمخرج توفيق صالح، وفيلم «الاختيار» للمخرج يوسف شاهين، وكان من المقرر أن يعرض المهرجان في دورته لعام 2023 الملغاة، للمرة الأولى النسخة المرممة من فيلم «جنينة الأسماك» بمناسبة منح مخرجه يسري نصر الله جائزة الهرم الذهبي، وتم الترميم تحت إشراف قناة ART العربية.
وعرض مهرجان الترميم في بروكسل نسخة مرممة للفيلم الجزائري «وقائع سنين الجمر»، للمخرج محمد الأخضر حمينة، الفائز بالسعفة الذهبية لمهرجان «كان» 1975، رفقة قائمة تضم 38 فيلماً كلاسيكياً عالمياً خضعت للترميم، بالتعاون مع شركاء عدة، بينهم «مؤسسة جورج لوكاس فاميلي للأفلام». وتضم قائمة الأفلام المرممة: «الكلب الأندلسي» الصادر عام 1929 للمخرج الإسباني لويس بونويل، و«الساموراي» (1967) للفرنسي جان بيير ميلفيل، و«المحاكمة» (1962) للأميركي أورسون ويلز، و«هاوس» (1977) للياباني نوبيهيكو أوباياشي، و«خوف ورغبة» (1952) للأميركي ستانلي كوبريك، وغيرها من الأفلام النادرة.
لمتابعة جلسة التصوير على النسخة الديجيتال على هذا الرابط ترميم الأفلام
مهرجان الجونة ينقذ أرشيف السينما المستقلة السودانية
اتجه مهرجان الجونة السينمائي بدورته السادسة نحو السينما السودانية، ليبدأ مشروعه لترميم الأفلام، وبحسب تأكيد المخرج إبراهيم شديد، تم التعاون مع مؤسسة «أرسنال» من أجل ترميم الأفلام بعد مجهود ضخم للحصول على تلك الأعمال السالب منها والموجب لتقوم بترميمها.
وتوقف المهرجان أمام الأفلام الأولى لـ «جماعة الفيلم السوداني» القصيرة والمتوسطة، وهي نسخ نادرة لأفلام سليمان النور والطيب مهدي وإبراهيم شداد، وكان معهد «أرسنال» للسينما وفنون الفيديو في برلين أعاد إحياء هذه الأفلام حفاظاً على هذه «الكنوز» السينمائية.وأكد انتشال التميمي، مدير المهرجان، أن الفكرة كانت للمنتجة ماريان خوري، المديرة الفنية للمهرجان، بهدف دعم التواصل مع السينما السودانية، التي حققت أخيراً إنجازات كبرى عبر أعمال سينمائية متميزة، من بينها: «أوفسايد الخرطوم» لمروة زين، و«ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلاء، و«الحديث عن الأشجار» لصهيب قسم الباري، و«وداعاً جوليا» لمحمد كردفاني.
نيجاتيف الأفلام
هل المبادرات السابقة تكفي لإنقاذ تراث السينما العربية من الضياع؟
نعود إلى خالد عبد الجليل الذي لا يزال متمسكاً بحلم إنشاء السينماتيك المصري، لافتاً إلى أن الخطوة الأولى للحفاظ على التراث هو جمعه في مكان واحد قادر على حفظه، مطالباً بتشريع قانوني يلزم كل شركات الإنتاج بإيداع نيجاتيف الأفلام في المركز القومي، لصونها، لافتاً إلى ضياع عدد كبير من الأفلام بسب وفاة المنتجين، وتصفية الشركات، وترك الشرائط تتحلل، بينما تم تهريب أفلام أخرى لا نعرف عنها شيئاً، ويتم اكتشاف بعضها بالمصادفة أثناء البحث في السينماتيك الفرنسي، الذي كان يحتفظ بنسخة من أي فيلم يتم إرساله إلى باريس للطبع أو التحميض، ومن بينها فيلم «ياقوت» لنجيب الريحاني المكتشف أخيراً.
كيف يتم ترميم الأفلام السينمائية؟
الحركة الواسعة لترميم الأفلام المصرية في السنوات الأخيرة مصدرها مركز الترميم السينمائي الذي تم تدشينه رسمياً عام 2018 داخل مدينة الإنتاج الإعلامي في مصر، بخبرات وتكنولوجيا متقدمة من ألمانيا، وبدأ مهماته بإنجاز تاريخي، وهو إنقاذ جريدة مصر السينمائية التي يعود تاريخ أعدادها المصورة إلى 100 عام، ويبلغ عدد إصداراتها 2400 عدد، توثق أهم اللحظات في تاريخ مصر الحديث والمعاص.
رحلة إنقاذ شريط السينما من الضياع
أكدت المهندسة ندى حسام عبد المجيد، رئيسة مركز الترميم السينمائي، أن الفيلم المراد ترميمه يمرّ بمراحل عدة. الأولى مرحلة الترميم اليدوي، ويتم فيها فحص الفيلم السينمائي، للوقوف على حالته الفنية وتصحيح الكادرات التي تعرضت لحاماتها للتفكيك، وفي المرحلة الثانية يتم غسل الفيلم لإزالة الغبار وآثار بصمات الأيدي، بعدها يدخل شريط السينما ماكينة السكانر لنقل كادرات الفيلم من الشريط الأصلي لجودة تصل إلى 4K، ويتم تحويل الفيلم من الصورة الأنالوج إلى الصورة الرقمية، لتبدأ بعدها مرحلة الترميم الرقمي للفيلم، ويتم فيها تصحيح الألوان ليستعيد الفيلم الألوان الطبيعية وقت تصويره، ومعالجة نقص البيانات المطلوبة للصورة، ثم فصل الصوت، وتنقيته، وإعادة دمجه في النسخة الرقمية النهائية.
أضافت أنه قبل إنشاء المركز، كان يتم ترميم الأفلام في أوروبا، وخاصة فرنسا الأشهر في مجال الترميم السينمائي، وتليها الهند، بينما حالياً يحظى المركز المصري بمكانة متميزة أهّلته لترميم الأفلام لصالح مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وبعد نجاح التجربة تم التعاقد لترميم أفلام لصالح مهرجان القاهرة.
لمشاهدة أجمل صور المشاهير زوروا «إنستغرام سيدتي»
وللاطلاع على فيديوغراف المشاهير زوروا «تيك توك سيدتي»
ويمكنكم متابعة آخر أخبار النجوم عبر «تويتر» «سيدتي فن»