حين تفقد أحد المقربين منك يعتريك الحزن، ثم يتلاشى مع مرور الأيام، ويصبح من فقدت مجموعة ذكريات في سجل حياتك، لكن حين تفقد جزءاً من ذاتك، وكل حبك ومنتهى شوقك.. عندها لن يكون الأمر اعتيادياً، ولن تتكرر نفس الصورة التي اعتدت عليها.
اليوم، وبعد مرور خمس سنوات عجاف على رحيل نصفي الآخر، وما تجرعت من مرَّ الابتلاء، وهو ما لم أكن قادراً عليه.. فأنا أضعف مما كنت أتصور، وأقل مما كنت أتمنى.
المتفردة
رقية القاسمي، هي الأجمل والأكمل، وما لم تنجب لها الأمهات شبيهاً.
عرفتها بدايات 2004م، يومها كنتُ أنا في المستوى النهائي لقسم اللغة العربية، وكانت هي في المستوى الأدنى لقسم علوم القرآن.
ولم أتوقع حصول ما حصل، فقد وقعت في قلبي، وتملكني حبها، ولم يمر عام كامل إلا وقد كتب الله أن تكون زوجتي.
كنت يومها قد أكملت دراسة البكالوريوس في الدراسات العربية، وأكملت هي دراسة البكالوريوس في تخصص علوم القرآن، وبتفوق. وجمعنا الله سبحانه وتعالى في أحلى عش، وأهنأ عيش، ولم يكن للشيطان بيننا حظ، وحسدنا الكثيرون، وصارت زوجتي، وروحي، وأمي، وأختي، وكل شيء في حياتي، ولم يعرف قاموس حياتنا خلافاً ولا صراعاً، وصار حالنا كما قال الشاعر:
وإذا تآلفت القلوبُ على الهـوى** فالناسُ تضربُ في حديدٍ بـاردِ
وإذا صفا لكَ من زَمانكَ واحـدٌ** فهو المرادُ، وعِشْ بذاكَ الواحـدِ
سعادة بلا أطفال
لم يكتب لنا القدر أن ننجب أطفالاً، لكن القدر كتب لنا أن نشرب السعادة، ونعبها من كأسها عباً، ونملك الهناء، ونقوده معنا حيث حللنا وارتحلنا. كانت رقية عظيمة بكل المقاييس، ورائعة بكل الأوصاف، ومتميزة بكل الجوانب. في كل حياتها تربطها بالقرآن علاقة خاصة يفقدها الكثيرون، وربما منهم أنا، وقّافة عند الحق، صدقتها جارية، أنفقت جزءاً كبيراً من دخلها في رعاية المعوزين من أقاربها، وتعهدت والدها المسن بالمال بشكل مستمر، وشجعتها على ذلك.
زهرتي تذبل
بعد ثلاثة أعوام بدأ المرض يتسرب إليها، وبدأت زهرتها تذبل، لكنها كانت أقوى منه ومني، ومن كل المحيطين بها، لم تشتك يوماً ولم تتذمر، حتى الطبيب الذي كنت أعالجها لديه كان لا ينفك يصفها بأنها جداً قوية. وقد ارتضت قدرها، وحمدت ربها، وجعلت من محنتها باباً للتقرب منه، وحين اشتدت وطأة المرض عليها بدأت تحس بأنها راحلة، وصارحتني بذلك، وبدأت تعد نفسها لهذا اليوم، ويا ليته ما حل.
استمرتْ بالعلاج وبالصبر، واستمرتْ بزرع السعادة في حياتي، فرغم مرضها كان أسعد الأوقات حين نكون سوياً. استمرت تنتهز كل فرصة؛ لتضيء في ظلمة المحنة شموع البهجة والسعادة، لم تخف يوماً من أنها ستموت، مع أنها كانت واثقة من قرب الموعد، فإذا ذكرنا الموت قالت: إن ذاك أمر ليس بأيدينا، ولا نملك له شيئاً، وحين يأتي لن نستطيع رده. كلنا يقول ذلك، لكن إذا اشتدت المحن ارتجفنا، إلا هي.
أمنية
تمنت أن يكون رحيلها في شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وجاء القدر المحتوم في الخامس من رمضان 1430هـ، وجاءها الأجل المحتوم، وعدمنا الحيلة جميعاً، وكانت وهي تغالب السكرات تردد اسمي، وكأنها تودعني ولسانها يلهج بالدعاء لي، كان أملي يومها أن تكون أقوى من الموت، لكنه كان الأقوى.
صعدت روحها إلى باريها، وأظلمت الدنيا بوجهي.. ولازالت مظلمة.
تمزقت ولم أبك
تمالكت نفسي ولم أبكِ ساعتها، لكني كنت ممزقاً إرباً إرباً، ولم أعد أرى في الحياة سعادة ولا هناء.
رحلت، وخلفتني أسيراً لمحنتي، فرغم مرور خمسة أعوام إلا أني إذا خلوت بكيتها، وكأنها غادرت البارحة.
غسلتها بيدي، وصببت الماء على جسدها الطاهر، فانساح معه قلبي وعقلي، ويا ليت ما كان لم يكن.
كفنتها بالأبيض، وهو اللون الذي كان عليه قلبها الطاهر، حملت معهم نعشها، وأنا أودع مصدر سعادتي، ولكم أن تتخيلوا رجلاً يحمل قلبه ليدفنه، ويجهز روحه ليواريه، ويسدل ستاراً على أغلى من عرف، وأقرب قريب، تخيلوا -ولكم الحرية أن تبكوا- شخصاً يدفن نفسه.
حسرة
آه... وألف آه... لو كان بيدي قراري لتوسدت التراب معها، ولو كان لي قدرة لمنعت الجمع من أن يواروها التراب، ولكن هيهات، فمن يحبك في ذلك اليوم يهيل التراب ويعجّل الدفن، وأصبح حالي مع قبرها كما قال الشاعر:
باللهِ يا قبر هل زالتْ محاسـنـُه** وهل تغيرَ ذاك المنظرُ النضـرُ
يا قبر لا أنت بستانٌ ولا فـلـكٌ** فكيفَ يجمعُ فيك الغصنُ والقمرُ
زحمة الحياة
دخلتُ في زحمة الحياة، وواجهتني الكثير من المتاعب، لكني أتخيلها دائماً تشد على يدي وتواسيني، وترسم لي طريقاً إلى الخلاص. لم أصل لله صلاة إلا ودعوت لها بالرحمة المغفرة، وبأن يعجل الله بالجمع بيني وبينها في الجنة دار السلام. لكِ الرحمة أيتها الملاك، أيتها العصفورة المحلقة في رياض الجنة.
لكِ الرحمة، لكِ المغفرة، لكِ خالص الدعاء.
قصة قصيرة: نصفي الآخر غادرني
- ثقافة وفنون
- سيدتي - موسى المقطري
- 12 مايو 2014