في الشِّعر يبدو الشَّاعرُ العملاقُ أحمد الصَّافي النَّجفي من أصدقِ أولئك الذين أوفوا "القول الحسن" ما عاهدوه عليه، لذا عاش شاعراً، ومات وهو يُغنِّي للحياة والشِّعر.
كان مثالاً لذلك الصُّعلوك الزَّاهد الذي يجلسُ على قارعةِ الحياةِ في مقهى "الهافانا" بدمشقَ ملتقياً عشرات بل مئاتِ النَّاس الذين يبادلهم الأُنسَ اليومي، وفاكهةَ اللحظةِ العابرةِ، يستقبلُ كلَّ من جاءَ بالطِّيبة والبِشرِ، وأحياناً بالسَّذاجة، لذا لم يلمع قوله الشِّعري، لأنه كان أقربَ إلى الرُّوحِ منه إلى مهرجانِ الأضواءِ، وكان يقولُ مردِّداً في ذلك:
تَعَجَّبَ صَاحِبِي لِخُمُولِ ذِكْرِي وفَوْزِ البَعْضِ بالذِّكرِ المِجِيدِ
فقلتُ ترفُّعاً: دَعْهُمْ يَعِيشُوا فليسَ يَضرُّ عَيشهمُ خُلُودِي
لهمْ عُمرٌ سِوى عُمرِي قَصيرٌ وشعراً لحَّدوه في المُهُودِ
فَدُنياهُم سِوى دُنيايَ قبرٌ ودنيايَ الوجودُ بلا حُدودِ
وهمْ في الكُتبِ عَاشُوا وهي تُغْنِي
وعشتُ بِعالمِ الرُّوحِ المَدِيدِ
أشهد لله بأنّه عاشَ في القلوبِ، وتبعثر على متاهاتِ الدُّروبِ، وقال شعراً صادقاً، لم يستفد منه إلا النَّاشرون الذين انهالوا على كتبه ودواوينه، يعيدون نشرها مقابلَ آلافِ الدُّولاراتِ، كلُّها تأتي من ظهرِ رجلٍ مات، ولم يجد "ثمن الَّدواء"، رغم عفَّته وعلو همَّته.. وحيث إن الرجلَ لم يتزوَّج فقد أصبح ميراثُه "حمى مستباحاً" لمعركةِ النَّاشرين الذين طيَّروا كتبه مقابلَ ما يكفي لإطعامِ مئات المسلمين.. وتلك قصَّةٌ أخرى!
عُرف الصَّافي النَّجفي شاعراً، يتوغَّل في البساطةِ بحيث يجعلُ القارئ كسولاً، لا يشحذُ ذهنه للتَّفكير، فالمعاني والكلماتُ عنده "قطوفها دانيةٌ"، والصُّورُ تأتي عنده بعواطفَ حانيَّةٍ، والمشاعرُ ناديةٌ، والأحاسيسُ صافيةٌ، وما على القارئ إلا التهامُ المنتوجاتِ الشِّعريَّة و"بالعافية"!
وممَّا يروى في صحيحِ الكتبِ التي تكلَّمت عن النَّجفي أنه دخلَ على أحدِ المقاهي "المتفرنجة"، فرأى شباباً يجلسون مع السِّيداتِ، وكانت لهم لحى مختلفةُ الأشكالِ! فسألَ عنهم، فقيلَ له: شعراءُ حديثون، فسألَ عن لحاهم الغريبةِ، فقيلَ له: هذه لحى فنيةٌ، فطلبَ أن يسمعَ شيئاً من شعرهم، فلم يفهم منه شيئاً فقال:
وصادمين بأشكالِ اللحى نظراً
وشعرهم يصدمُ الأسماعَ، يلطمُهَا
تحارُ أفكارُنَا فِي فَهمِ شِعرهم
وأشعارُهُمْ "كلحاهم" ليسَ تَفهمُهَا!
وممَّا يحبِّب الشَّاعرَ إلى سحرِ القول الارتماءُ في محاضن الطَّبيعة، لا محاضنِ الإرهاب، لذا يأتي شعره معبِّراً عنه أصدقَ تعبيرٍ، اسمعه يقول:
أنا إنْ جلستُ إلى الطَّبيعةِ خلوةً
أهوى سكوتي غارقاً بِجمالِهَا
يكفيكَ عن حلوِ الحديثِ حديثُها
فاصخْ بروحِكَ واستمعْ لمقالِها
إنْ رمت قولاً فليكن عن حُسْنِها
أو سكرها، أو روحها أو خيالها
عمي العيون بثرثراتهم التهوا عنها
وفي أحوالهم عن حالها
حتَّى الغناءُ مُشوَّش لجمالها
فمع الحبيبةِ تَغْتنِي بِوصالِها
عاشَ الشَّاعرُ الكبيرُ أحمد النَّجفي وحيداً غريباً بين لبنان ودمشق حتَّى إذا أخذ منه الزَّمانُ ما أخذ، ولم يبقِ إلا مرحلةَ الموت، عادَ إلى وطنه العظيمِ "بغداد" وقد أطفأت أنوارُ عينيه، وصار أعمى، وعندما وصلَ إلى المطارِ، خرج مئاتُ البشرِ لاستقباله، وكان يصيحُ في المطارِ في وجه مستقبليه قائلاً:
يا عودةً للدَّارِ ما أقْسَاهَا أسْمَعُ بَغْدادَ ولا أراهَا!
شاعرنا العظيمُ، نَمْ قريرَ العينِ، فالعمى أرحمُ لك حتى لا ترى بغدادَ الآن، وهي تمارس فضائحَ الإرهابِ، ودعارةَ العقلِ، ومن الخيرِ لك ألَّا ترى بغدادَ، ولا تسمعها. رحمك الله آمين.